مقدمة
شاعر ...بين التمرُّد والاحتراق
عبد القادر الحصني
شريطٌ عذبٌ من الذكريات الغالية عليّ، تداعى إلى خاطري، وتسلسلت صوره، حين طلب إليَّ الشاعر العربي المناضل محمد بلقاسم خمّار أن أقدّم لمجموعته الشعرية هذه...
شريط أعادني إلى طفولتي وصباي، حين عرفت شعره أول مرّة..
أعادني إلى النصف الأول من الستينيات- أنا طالب في المرحلة الابتدائية، آنذاك -حين صافحت عيناي حروف اسمه على صفحات مجلة الثقافة السورية في أشعار تعبق بحب الجمال، وتلتهب بنار انتصار ثورة الجزائر.
بعد بضع سنين كان تعرُّفٌ ثانٍ على صفحات مقرّر اللغة العربية للشهادة الثانوية عام 1970م، حيث درسناه في إطار شعر التحرّر الوطني والنضال ضد المستعمر الفرنسي.. وما بقي من تلك الدراسة إحساسي بأن جانب حبِّ الجمال في شعر محمد بلقاسم خمّار، قد غاب ظلُّه عن تلك الدراسة، ولو حضر لأضفى على وهج الثورة ظلالاً إنسانيةً نديّةً، تشي بما وراء نار الثورة من نور الإيمان بالله وبالحياة... فنفس الشاعر التي اضطرمت بنار النضال هي هي التي ائتلقت بأنسام الحبّ وأنداء الجمال.
بين ذينك التعرّفين تسلسل شريط الذكريات.
هل أستطيع استعراض هذا الشريط؟
لا أظنني فاعلاً ذلك، ففوق طوق الورق احتمالُ عقدٍ من الزمان حمل أبهى أحلام الأمة العربية وأقسى انكساراتها...
هل أقول أنني كنت في الصف الأول الابتدائي أصيخ السمع مليّاً متوهِّماً أنه يمكنني أن أسمع أصداء أزير الرصاص في الجزائر، فقد كانت المسافة بين سورية والجزائر في وجداني الطفلي آنذاك جدّ قريبة، ذلك بسبب من أن ثورة الجزائر كانت تملأ أجواء البيت والمدرسة والشارع..
ألم نكن نردّد نشيد ثورة الجزائر كل صباح مع النشيد الوطني تحت علم أول وحدة عربية في العصر الحديث؟
هل أقول ذلك؟ إذا قلت ذلك سيسخر مني جيل من أطفال الدعايات، ولن يعرف أطفال العراق إلى أي مدى يمكن أن يفتحوا عيونهم دهشةً، أما أطفال الجزائر، فسلام لك من أطفال المجازر!
عام 1996م، بعد خمسة وعشرين عاماً على التعرُّف الثاني -أنا في أمانة تحرير جريدة الأسبوع الأدبي في اتحاد الكتاب العرب بدمشق- وجدتني وجهاً لوجه أمام شخص الشاعر... هذا هو إذاً محمد بلقاسم خمّار، بعد عمرٍ من التعرّف على الورق.. داهم موج عالٍ مناطق هاجعةً في شواطئ نائية، وتحدّر من ذؤابات أوراس خيول مطهّمة؛ عليها جدود مؤمنون، وقدم دمشقَ الأميرُ عبد القادر الجزائري حاملاًالفتوحات المكيّة) إلى حلقات الجامع الأموي الكبير، والتمع خاتم ذهبي بين تبرعات طلاب صفنا للثورة الجزائرية؛ وحين استفسر المعلم، أجابه أحد زملائنا: إنه خاتم زواج أمي، هدية إلى جميلة بوحيرد.....