القسم الأول
1 - مرشح ليصبح نابليون
- لا ترش الرذاذ على ثوبي يا شتيرنر! أنت لا تجيد التجذيف.
- طبعاً, لدى النساء عادة تبرز عندما يتوجهن إلى نزهة في القارب, وهي أن يرتدين ثوباً مصنوعاً من تلك المادة التي يترك رذاذ الماء عليها بقعاً لا تمحى.
- أنت تستعير هذه الفكاهة من قصة "ثلاثة في القارب" لجيروم جيروم.
- أنت واسعة الإطلاع جداً, أيتها الآنسة. أنا لست مذنباً في أن جيروم قام بهذه الملاحظة قبلي. الحقيقة تبقى حقيقة, ولو أن المسافرين في الزورق كانوا خمسة لا أربعة.
ردت إيما فيت من مقعدها:
- نحن أربعة فقط.
أجاب شتيرنر:
- أيتها اللعبة الرائعة ذات الشعر الأجعد الذهبي لقد كان الراكب الرابع في زورق جيروم كلباً, أما الراكب الأول في قاربنا فهو كلبي فالك...
- لماذا هو الراكب الأول؟
- لأنه عبقري. فالك! ناولْ منديل الأنف للآنسة فيت, فهي قد أوقعته, كما ترى.
قفز فالك كلب الصيد الأبيض الجميل بحذاقة وناولها المنديل, فضحك الجميع.
قال شتيرنر بخيلاء:
- ها أنت ذي تشاهدين! تزوجيني يا آنسة غليوك! وسنفتتح معك سيركاً للكلاب الضالة, فأقوم بعرض عجائب الترويض وأنا ألبس باروكة المهرج الشقراء, في حين تجلسين عند الصندوق. ولك أن تتخيلي فقط هذه الحياة المسالمة الرغيدة: الجمهور يتقاطر إلينا من كل حدب وصوب, والكلاب ترقص, والنقود تخشخش في الصندوق ... وبعد الحفلة سنولم مائدة في مجتمع أخلص وأبهى الأصدقاء من ذوي الأربع. عظيم! هذا أكثر تسلية بكثير من العمل لدى كارل غوتليب.
- أشكرك, لكني لا أحب حياة التشرد.
- هم ... أنا أمثل لك كمية تافهة جداً بوجود رأسمالك.
سألتْ إلزا غليوك في حيرة:
- بوجود رأسمالي؟
- لماذا تتعجبين؟ أنت تتظاهرين كما لو أنك لا تعرفين رأسمالك. إنه شعرك العجيب المميز لفينوس تيتسيان ... أليس هذا اللون طبيعياً؟.. لا تلبسي وجهك الاستياء. أنا أعرف أنه طبيعي. أما النساء التيتسيانيات, كما تعرفون, فقد صبغن شعورهن بمركب خاص. حتى إن وصفة هذا المركب قد حفظت في مكان ما. وهكذا ترون, فإن جميلات العالم اللواتي ألهمن ريشة تيتسيان, قد كوَّن صنعياً ذلك الذي قامت الطبيعة الكريمة بإعطائك إياه دون تقديم وصفة ... أما عيناك الزرقاوان مثل الهاوية السماوية! فإنهما طبعاً, ليستا ملونتين صنعياً أبداً...
- كفاك...
- أسنانك, عقد لؤلؤ...
- بعد ذلك يأتي وصف الشفتين المرجانيتين, أليس كذلك؟ من الممكن التفكير بأنك لست سكرتيراً لصيرفي مضجر, وإنما مندوب تجاري متجول لدى شركة مجوهرات. لذا فأنا سأدفع لك, أيها الثقيل, لأجل هذه المجاملات الجواهرية! أما وجهك الطويل, وأنفك الطويل, وشعرك الطويل, وذراعاك الطويلتان فهي طبعاً حقيقية؟
- وأنت أيعجبك أكثر كل شيء مدور؟ مثل ذلك الوجه المدور لدى أوتو زاوير, وهاتان العينان المدورتان, ومن الجائز, ذلك الرأسمال المدوَّر الذي سيتكوَّن بعد عشر سنوات...
نطقت إلزا غليوك والسخط في صوتها:
- لقد أوصلت الكلام إلى حد الدناءة.
تكلم زاوير المستشار القانوني للصيرفي غوتليب:
- من فضلك, لا تحسب الرأسمال في جيوب الآخرين.
كان زاوير منحرف المزاج خلال حديث شتيرنر مع إلزا, وشق صامتاً الماء المتورد بأشعة الشمس الغاربة بمجذافين طويلين.
شعر شتيرنر حقيقة أنه مضى بعيداً في نكاته, لذا أخذ يتكلم بجدية أكبر.
- المعذرة أنا لم أرد الإساءة لأحد. أردت القول فقط إنه في الحب, كما في كل الأمور, يوجد القانون ذاته, قانون الصراع من أجل البقاء, والأقوى سينتصر. فذكور الأيائل تخوض صراعاً حتى الموت, في حين تصبح الأنثى ذات القرون والقوائم الأربع من نصيب المنتصر. ومن هو الأقوى في مجتمعنا؟ إنه ذلك الذي يملك رأسمالاً.
التفت شتيرنر نحو إلزا.
- تخيلي يا آنسة, كما لو أنني أصبحت غنياً فجأة, مثل كريز. لا, أكثر غنى. مثل رب العمل المحترم كارل غوتليب. عندئذ, من المحتمل, ألا يبدو وجهي طويلاً إلى هذا الحد في عيون النساء.
أجابت إلزا مبتسمة:
- سيبدو أكثر طولاً.
قال شتيرنر بعدم ارتياح:
- آ! هذا لأنك حرة في الاختيار حسب ذوقك حتى في وسط من أشباه غوتليب, بسبب امتلاكك لهذا الرأسمال من الجمال. وما الذي سيبقى لنا لنعمله, نحن الحثالة التافهة, المؤلفة من مختلف السكرتيرين والسكرتيرات, الذين يقفون قريباً من طاولة المأدبة, لكنهم مضطرون لالتقاط الفتات الساقط فقط, وهم يبتلعون ريقهم, ويشاهدون كيف يثمل الآخرون من كل خيرات الحياة؟
قالت فيت:
- يالها من كلمات قبيحة لديك يا شتيرنر!
تابع شتيرنر:
- المعذرة, فأنا سأعير قاموسي اللغوي اهتماماً في غاية الجدية ... النزاهة: هذا هو عيبنا الذي يستغله من هو أعلى منا, قال هايني ذات مرة: "النزاهة شيء رائع إذا كان الجميع من حولي نزهاء, وأنا النصاب الوحيد بينهم", ولكن بما أن حولي كتلة متراصة من المحتالين أيضاً, طبعاً الحديث لا يجري عن الموجودين, فإنه كي أمتلك السعادة...
ونظر إلى إلزا غليوك(1) نظرة ذات معنى.
- ... من الواضح أنه علي أن أصبح ذلك النصاب الخارق, الذي يبدو جميع المحتالين الباقين أشخاصاً فاضلين بالمقارنة معه.
تدخل أوتو زاوير في الحديث مجدداً:
- أنت اليوم ترفه عن السيدتين ترفيهاً فاشلاً إلى حد ما يا شتيرنر, إذ تكتسب مزحاتك مسحة قاتمة جداً.
سأل شتيرنر آلياً:
- آ؟
ثم سحب رأسه فجأة وصمت, فأصبح وجهه شيخوخياً, إذ ظهرت ثنية عميقة بين حاجبيه. وبدا غارقاً في تفكير عميق, كما لو أنه يحل مسألة ما صعبة.
وضع فالك إحدى قوائمه على ركبته ونظر بانتباه إلى وجهه.
ربض المجدافان في يدي شتيرنر دونما حراك, وقطرات المياه الحمراء مثل الدم تسيل منهما دون انقطاع تحت أشعة الشمس الغاربة.
ارتعشت إلزا غليوك فجأة وهي تشاهد وجه شتيرنر الذي شاخ فوراً, وحولت نظرها إلى زاوير كما لو أنها تبحث عن مساعدة.
وفجأة صدم شتيرنر المجدافين بالمياه بقوة, ثم رماهما وانفجر في قهقهة.
- اسمعي يا آنسة إلزا. وماذا لو أنني أصبحت أقوى إنسان على الأرض؟ لو أن الجميع امتثل لكلمة واحدة مني, لإشارة واحدة, مثلما يمتثل فالك؟
صرخ شتيرنر وهو يرمي السوط في الماء:
- فالك! الحقه!
اندفع فالك مثل السهم مغادراً متن القارب.
- هكذا! لو أنني أصبحت سلطان العالم؟
قالت إلزا:
- أ تعرف يا شتيرنر؟ لديك وجه شاب, ولكنه قديم الطراز للغاية. تشاهد هذه الوجوه بين الصور في الألبومات العائلية. وعادة ما يقولون عنها كما يلي: "هذا هو جدنا في شبابه". وها أنت ذا بالضبط مثل "جد في شبابه". لا, أنت لا تصلح قطعياً كي تصبح نابليون. هل يعقل أن يخرج منك نابليون مصرفي صغير؟.
- أوخ, هكذا إذاً؟ في هذه الحالة أنا أحرمك من التاج, والقصر, والعربة الذهبية, والقلادة الماسية, ومن جميع وصفاء ووصيفات بلاطك. أنا أحرمك من عطفي. واعلمي أنني لا أحبك إطلاقاً. ولا تظني أنني أنوي القيام بمآثر مثل فارس من القرون الوسطى, فقط كي أستحق الحصول على يدك وقلبك. كلا, إطلاقاً. فأنت بالنسبة إلي مقياس لإنجازاتي فقط. رهاني الأول, لا أكثر. هذا ما لدي لك!
- وماذا في ذلك! والآن ألا ترغب في الانكباب على المجدافين؟ حان وقت العودة إلى المنزل.
سحب شتيرنر إلى الزورق فالك المبتل, الذي صب الرذاذ على الجميع عندما انتفض, فصرخت غليوك وفيت.
نكت شتيرنر وهو يضغط بقوة على المجدافين:
- لقد هلك ثوباكما اللذان يخشيان الماء.
اندفع الزورق بسرعة مع التيار نحو الأسفل, واختفت الشمس خلف الغابة. وفي الأعلى تلألأ النهر مثل الذهب المصهور, في حين رقدت حول القارب ظلال زرقاء.
أخذت الرطوبة تمتد, فألقت إيما على كتفيها شالاً أزغب.
صمت الجميع.
كان سطح النهر المرآوي ساكناً, ونادراً ما قامت سمكة صغيرة بشق السطح الأملس الهادئ وقد لمعت حراشفها فوقه.
قطع زاوير الصمت:
- لم أكن أعلم أنك طموح على هذا النحو يا شتيرنر. أخبرنا ما الذي دفعك لترك مركزك العلمي والانتقال إلينا في مجموعة خدم غوتليب المتواضعين؟ إذ إنك, إذا لم أكن مخطئاً, قد عملت عملاً ناجحاً جداً في مجال دراسة الدماغ, لا بل إنني صادفت عدة أخبار في الجرائد عن تجاربك الموفقة ... ماذا يدعى ذلك العلم الفتي الذي شغفت به آنذاك؟ الإرتكاسولوجيا؟
قالت إلزا:
- أنا أتخيل تخيلاً مبهماً جداً ماهية هذا العلم.
ابتدأ شتيرنر الحديث بتلك النبرة, كما لو أنه يقرأ محاضرة على جماعة منتقاة:
- أيها السيدات الفاضلات والسادة الأفاضل. الإرتكاسولوجيا, هو العلم الذي يدرس ردَّات الأفعال الجوابية لدى الإنسان, وعموماً لدى أي كائن حي, والتي تظهر بالارتباط مع تأثير العالم الخارجي. فتميز بذاتها عموماً, كل علاقات الكائن الحي مع الوسط المحيط. مفهوم؟
أجابت إيما:
- غير مفهوم إطلاقاً.
- سأحاول التعبير بشكل أسهل. الارتكاس هو نقل الإثارة العصبية من إحدى نقاط الجسم إلى الأخرى بوساطة المركز أي الدماغ. فكل تأثير من الخارج عبر أعضاء الحس, وعن طريق الارتكاس من خلال المركز, يستدعي للعمل أعضاء الجسم هذه أو تلك. وبكلام آخر, يستدعي رد الفعل. الطفل يمد يده نحو النار, فتحرقه. إن تأثير النار هذا على الجلد ينتقل من خلال الأعصاب إلى الدماغ, ويذهب رد الفعل الجوابي من الدماغ إلى اليد, فيسحب الطفل يده بسرعة. وسيرتبط التصور عن النار لدى الطفل بتصوره عن الألم. وفي كل مرة عندما يشاهد الطفل النار سيبدأ بسحب يده بوجل. أي أنه حدث ذلك الذي ندعوه علمياً الارتكاس الشرطي. سأقدم مثالاً أكثر تعقيداً. ستقدمون الطعام للكلب, وفي الوقت ذاته, وفي كل مرة عندما يباشر الأكل ستعزفون على المزمار, غداء مع الموسيقا. أثناء الطعام يسيل لعاب الكلب بغزارة. بعد فترة من الزمن, عندما يرتبط العزف على المزمار في وعي الكلب ارتباطاً وثيقاً بالأحاسيس الذوقية, فإنه سيكون كافياً لكم أن تعزفوا على المزمار كي يبدأ لعاب الكلب بالسيلان بشدة. ارتكاس شرطي!. وما علينا إلا التفكير في أن أكثر الأحاسيس الإنسانية "قداسة" مثل الواجب, والإخلاص, والفريضة, والأمانة, وحتى "الأمر القطعي" الكانتي الشهير, ما هي إلا ارتكاسات شرطية تماماً, من الرتبة ذاتها التي تضم سيلان لعاب الكلب أيضاً. عملية خلق هذه الارتكاسات أكثر صعوبة, ولكن الجوهر ذاته. بعد هذا الإيضاح العلمي, أعترف أن كل هذه الفضائل العالية لا تثير في نفسي احتراماً خاصاً ... ولهذا يبدو لي أحياناً, أن سيلان لعاب الفضيلة هذا مفيد لأحد ما, وأن أحدهم يعزف على مزمار الدين والأخلاق والواجب والنزاهة. أما نحن, الأغبياء, فنطلق اللعاب. ألم يحن الوقت كي نرمي كل سقط المتاع القديم هذا, وأن نكف عن الرقص على مزمار الأخلاق القديمة؟ .............................التتمة في الكتاب
تنزيل نسخة مضغوطة عن الكتاب
http://www.awu-dam.org/book/04/novel04/403-h-d/403-h-d.zip
........................................................تحياتي.....................................................