نار الذاكرة
ها أنا ذا الآن في ثوب الكهولة.
ومتى كنت غير ذلك؟
[size=12]يخيل لي أحياناً، أني لم أكن طفلاً أو شاباً قط.، فقد كنت رجلاً منذ مولدي، .. منذ تلك اللحظة دخلت قلب النار... بل يبدو لي أني كنت في قلب النار حتى قبل مولدي...... وأن النطفة التي خرجت من صلب أبي ليست إلا جمرة أشعلتها، سنوات الحزن والموت ومرارة الفقد والضياع....، شأني في ذلك شأن كل الرجال في القرية.
[size=12]القرية التي لازالت تحتل ذاكرتي بكل ما فيها من صخور وأودية وطرقات، وأشجار، وبيوت حجرية عتيقة.
[size=12]في كل يوم حين أضع رأسي فوق وسادتي، تلتف جمجمتي بذكراها...، أدخل إليها، أمشي في طرقاتها، أتفقد بيوتها المتخاصرة على أطراف الأزقة الضيقة. ،،، أنادي أهلها، فأسمع أصواتهم كما لو أنهم أمامي الآن.
[size=12]يؤرقني صهيل خيولها، وجلبة أطفالها... أقف في ساحتها- أتذكر وجوه لداتي جميعاً، .... أبتسم حين أتذكر خيباتنا المشتركة، وأبكي حين يغمرني الحنين.
[size=12]وعندما يغلبني النوم، تكون أحلامي قد تهادت فوق أمواج بحيرة طبرية التي لازالت تحتفظ بوجوهنا ورائحة أجسادنا.
[size=12]كيلو مترات فقط تفصلنا الآن عن القرية، فها نحن على الضفة الأخرى، قبالتها تماماً، وبالتحديد في المكان الذي شهد خروجنا، يوم حملنا جراحنا وصرر ذكرياتنا عبر النهر وعبر الأودية والهضاب وأشواك البر.
[size=12]مشاعر شتى تتنازعني الآن، وسط جلبة الرجال المدججين بالسلاح والترقب والأمل والخوف.
[size=12]انظر في وجوههم.....، شباب في مقتبل العمر، بعضهم كان جمرة في رحم أمه يوم خروجنا، وبعضهم دخل المخيم عارياً فبنى جسده عنوة تحت حرارة الشمس، وهباب المدن، وثلوج الشتاء والطرقات الموحلة.
[size=12]فمن قال: إن الكبار يموتون وإن الصغار ينسون!!؟.
[size=12]ألم يخطر له، أن ذاكرة الناس تتوالد كما الأجنَّة في الأرحام؟.
[size=12]وأن رماد المواقد القديمة هو حاضنة النيران القادمة؟
[size=12]يا إلهي.... لحظة المواجهة قادمة لا محالة، ... ساعات فقط، وسنعبر النهر، ..... ساعات فقط وسيسجد النهر تحت أقدامنا.
[size=12]سنعبر في الاتجاه المعاكس، سيعرف الماء طعم أجسادنا، وستعرف الصخور حرارة أنفاسنا، وصدى لغطنا.
[size=12]لا أدري لماذا لم يخطر لي حتى الآن، ... كيف سنواجه العدو إذا اعترض سيرنا، رغم كل الخطط التي حفظناها وجهزنا أنفسنا لخوضها!!؟.
[size=12]الهاجس الذي يغمرني الآن.
[size=12]كيف سأواجه نفسي عندما نصل إلى هناك؟.
[size=12]وكيف ستكون مشاعري عندما أشتم رائحة جسدي المجبولة بتراب الكروم والبساتين؟.
[size=12]وماذا سأفعل عندما أجد نفسي وجهاً لوجه مع البيوت المدمرة- والطرقات التي حملت ملامحي؟
[size=12]يخطر لي أن أذهب فوراً إلى قبر أبي لأسلم عليه، وعلى كل الذين ذابت أجسادهم في تراب البلاد، فظلوا خميرةً لأحلامنا القادمة.
[size=12]آخ يا أبي لو تراني الآن....!
[size=12]صرت مثلك تماماً، رأسي يشتعل بالشيب، وتغضنات وجهي تشي بالشقاء، وبندقيتك التي زغردت يوم موتك ولدت في أعماقي بنادق كثيرة.
[size=12]يوم مات أبي، اختار عمي أن يودعه بالرصاص.
[size=12]ففي اللحظة التي ارتفع فيها النعش على الأكُف، وسط تكبيرات الرجال ونحيب النساء،...
[size=12]ركض عمي إلى حجرة والدي، التي بدت كأنها مهجورة من ألف عام، وخطف بندقيته المعلقة فوق مسمار صدئ خلف النافذة الخشبية، ثم أشرعها في الفضاء...، كانت الطلقات الأولى متلاحقة، ثم تباطأت رويداً رويداً على امتداد الطريق إلى المقبرة.
[size=12]وداع والدي بالرصاص، أضفى على جنازته شيئاً من المهابة والعظمة، حيث ابتلع دوي الرصاص جلبة المشيعيين وتكبيراتهم، وارتسم في أذهان الجميع حالة خاصة لوداع رجل عظيم.
[size=12]ورغم حزني الشديد في تلك اللحظة فإن إطلاق الرصاص قد منحني الكثير من الرصانة والهيبة والتماسك، وتعلقت عيناي منذ الطلقة الأولى على بندقيته المشرعة بين يدي عمي المرتجفتين.
[size=12]كانت بندقية ذات أكرة بيضاء مستديرة لامعة، وقد بدت كأنها خرجت للتو من أيدي صانعيها، ... أو كما كانت يوم تسلمها والدي من مكتب المقاومة الشعبية في القرية. قال الشيخ لعمي: توقف يا رجل، كفى رصاصاً، فها قد اقتربنا من القبر، أجاب عمي: إطلاق الرصاص سيكون راحة لنفسه، ألا تعرف يا سيدي أن جسده مجبول برائحة السلاح؟ ..................