الفصل الأول
الأزمنة السحيقة، امتدت تأثيراتها تحت رماد القرون، ووضعت بصماتها على المكان، انطفأت البراكين الأولى المتأججة، واتسعت فوهاتها، وتراكمت حممها بين منعرجات جبال الشعرا واستحالت مع توالي العصور الجيولوجية سهلاً بازلتياً، تحيطه رعوش جبلية، واحراج نضيرة. من الجهة الشرقية على مطل السهل الغربي، نهضت رابية عالية؛ تراكبت فوقها بيوت من الحجارة، اقتلعت من الصخور الصلدة الناتئة التي أبقتها البراكين الخامدة جوبات متناثرة سُميت الحارة الواطئة منها بحارة غويران الوطا والحارة العليا بحارة (غويران المزار) وفي قمة الرابية تبدت سنديانة هرمة، بأغصانها المقشرة، كأنها مخالب نسر كسرته الأيام ونتفت ريشه. وعلى جذعها الدهري، رُبط شابٌ في ريعان فتوته ربطاً محكماً، وعري الطرف الأعلى من جسده الهزيل المدمى بآثار قضبان من الرمان اللدن، تلك القضبان تركت خطوطاً زُرقاً في جانب وخطوطاً حمراً نازفة في جانب آخر، وكانت شمس أيلول القائظة المنذرة برحيل الصيف، تلقي ظلالها الغروبية فوق الجسد المُدمى الذي كان يهدر فوقه رجلٌ ذئبي السمات، يفتل شاربيه الطويلين كذنب جحش صغير كلما تعب من الضرب، أو تكسر قضيب الرمان، ليأتي بآخر أشد صلابة، ولم يكن أحد يتجرأ أن يتدخل لايقاف هذا الرجل، رشيد بك مبارك الآمر الناهي الذي يملك وأسرته الأراضي والدواب والبشر الذين يعملون مرابعين في حارة غويران الوطا، ولم يكن هذا الشاب المصلوب على جذع السنديانة إلا غيلان الجعفي الابن البكر لابراهيم الجعفي من أسرة الجرود المهاجرين، الذين تقاذفتهم الفلواتُ والاضطهاد العثماني، إذ قتل السلطان عبد الحميد الأخوة الثلاثة رمياً بالرصاص نتيجة دسيسة قام بها أحد عملاء الدولة ، روعت الحادثة إبراهيم الجعفي وظل يجترها في ذاكرته، ويتملاها في أسى مفجع كلما خلا لذاته، راحت عيناه الواجفتان تراقبان ابنه المصلوب على جذع السنديانة في تمزق غريب، وانداحت بحيرة الذكريات في قحف رأسه، وانتشرت في العراء المجنون جثث أخوته الثلاثة، وقد غربلها رصاص العثمانيين، وكانت الخطوط المدماة فوق جسد ابنه تحفر في سراديب ذاكرته المفجوعة الخطوط ذاتها التي رسمها الطغاة، عبر القرون في جسم الإنسانية الحزينة، وكان التأوه المجروح الذي ينفثه ابنه بعد كل ضربة عنيفة، وتمزق في الخلايا، ينقله إلى قفار الخوف القديم، يوم جُرَّ أخوته وراء قرابيس الجنود القساة، وارتسم فوق وجوههم الرعب الذليل، يوم صلبوا عند المغيب، في هذا الوقت ذاته، الذي يُصلب فيه ابنه. أحس بدوار مقرف يكتسحه، ودموعه تتساقط من عينيه، دون أن يقدر على أن يبدي حراكاً، ولو تقدم خطوة واحدة، لناله أضعاف مايناله ابنه غيلان الجعفي من الضرب المبرح. حاول أن يصم أذنيه عن فرقعة الضرب، وصوت الجلد الذي ينهش اللحم. كان رشيد مبارك يكشر عن أنيابه فرحاً، كلما رأى الدموع تنهمر ثخينة فوق خد الأب المعروق الذي أهزله الزمن، ليتلذذ برؤية الضحيتين معاً، وكان المغيب يُلون جبهة غيلان الجعفي وتضاريس وجهه، بلوحات مغرقة بالحزن، والايحاء الناطق مما يرتسم في الأعماق، وينعكس فوق كوى الجسر، فتبرز المعالم أكثر شخوصاً، وتتجلى بوارق الحدس أشد تعبيراً، عينان واسعتان سوداوان كفحمة الليل، في الأغوار السحيقة، تسبح فيهما دموع متألقة، جبهة عريضة كأنها قُدَّت من صخور جبال الشعرا، تناثر فوقها شعر حالك طويلٌ، اختلط بالدمِ والتراب، وأنف أقنى يبرز في هذا الوجه كأنه رعش ناتئ، ينتهي بفم مطبق على إرادة مصممة على الوصول إلى غايتها، غير أن التعذيب الوحشي، أحدث شرخاً في تصميمها، وترك ندوباً دموية فوق الشفتين المتيبستين. اقترب رشيد مبارك من الفتى المدمى وصرخ به صائحاً:
- تحاول أن تقفز فوق طبقتك وابنتي خضراء مبارك لن تسقط في وهادكم ووحولكم النتنة مثلكم، آويناكم أيها الجرود المارقون، أسكناكم بيوتاً تضمكم بعد أن كنتم سارحين في الفلا والبراري مثل الوحوش. أطعمناكم من قمح أرضنا وغلالها، بعد أن أكلكم الجوع والعري والمهانة، الدم الذي يجري في عروقنا، نحن آل مبارك يختلف عن دمكم المجبول بالذل. ابنتي خضراء الغالية سأزوجها إلى أغنى وأرفع شخصية في هذه الديرة أو إلى أحد أولاد عمها اللائقين بها، ولن أكتفي بجلدك وحدك المرة القادمة بل سأجلد أباك، وأحبس أهلك في زرائب الدواب..