المقدمــــة
الاغتراب -ظاهرةً- قديمةٌ قدم الإنسان في هذا الوجود. فمنذ أن تكونت المجتمعات الأولى نشأت معها وفي ظلها الأزمات التي كانت تتمخض -بشكل أو بآخر- عن أنواع من الاغتراب عانى منها الفرد، وواجهها على وفق حجم طاقاته العادية والروحية، فقد تقوده إلى التمرد والعصيان، مثلما قد تفضي به إلى الاستسلام والانعزال والانكفاء على الذات.
ويبدو أن الاغتراب قدر الشعراء العرب القدامى:
فقد تغرب امرؤ القيس حين أنكر عليه أبوه قول الشعر وخرج مغضوباً عليه في نفر من شذاذ طيء وكلب بعد أن شبب بإحدى نساء أبيه. كما عانى طرفة بن العبد من الاغتراب حين خرج على مجتمعه وتمرد على قيم القبيلة فتحامته العشيرة. وعرف عنترة العبسي الاغتراب بسبب لونه ونسبه لأمّه وهي الأمَةَ الحبشية وكان ذو الرمة ضحية الاغتراب الاجتماعي بسبب مرضه العصبي، ثم العاطفي حين أحب ((ميّة)) قرابة عشرين عاماً.
وعانى أبو تمام من اغترابات شتى: مكانية واجتماعية ونفسية حتى آمن بأن الاغتراب هو التجدد. وارتبط الاغتراب بحياة أبي الطيب المتنبي أيما ارتباط فكان نسيج وحده، افرده الهّم مثلما افرده الحسد. وكان لأبي فراس الحمداني اغترابه هو الآخر: بسبب مرارة الأسر وعذابات الشوق والحب، وعاش الشريف الرضي اغترابات حادة على رأسها اغترابه الروحي الذي تلبسه بسبب مآسي سلالته الهاشمية.
فإذا ما اقتربنا من أبي العلاء المعري أطْللْنا على ذروة اغتراب النفس، واغتراب المكان واغتراب الجسد. وهكذا يتكشف لنا الاغتراب من خلال أولئك الشعراء وسواهم عن نفوس طامحة وأرواح مجنحّة تاقتْ إلى العلو، ووجدت في الأرض جحيماً لا يُطاق.
وقد بات الاغتراب قضيةً تناولها الفلاسفة والمفكرون بالتحليل وتعقبّوها بالبحث والاستقصاء بعد نشوء المجتمع الصناعي من جهة، وقيام الحربين الكونيتين وما رافقهما من مآسٍ وويلات من جهة أخرى حتى ليصح أن يقال إنَّ في كل إنسان مغترباً.
ولقد عانى الإنسان العربي بعامة والمثقّف بخاصّة، من اغترابات شتى، واتسمت ردود فعله بأشكال شتى تراوحت بين الانسحاب من الواقع إلى هامش الحياة، أو الرضوخ للنظام القائم والاندماج في مؤسساته، أو التمرد بنوعيه: الفردي والثوري الجماعي، أو الهجرة إلى الخارج بحثاً عن فرص أفضل في الحياة.
ولابد من الإشارة إلى سببين جوهريين وراء اغتراب المثقف: يتصل الأول بقضية الحرية وما يتعلق بها من مداخلات السلطة السياسية والاجتماعية، ويتعلق الثاني بصدمة المثقف بسبب تعثّر المشروع النهضوي القومي.
وإذا انعطفنا نحو الشاعر العربي المعاصر، سنجد أنّ انعكاس الاغتراب عليه بات طردياً مع تعقيد الحياة وتعفّن أوضاع المجتمع، فالشاعر أسرع من غيره إلى الإصابة بهذا الداء لأنه يتمتع بقدر عال من الحساسية والتوتر والرهافة، ولهذا فقد عاش في اغتراب مركب لأنه ((إنسان جمعي يستطيع أن ينقل ويشكل اللاشعور أو الحياة الروحية للنوع البشري)) مثلما يقول (يونج).
ولا شك في أن اغتراب طليعة الشعراء في هذا القرن وفي الحقب اللاحقة، قادهم إلى محاكاة الرومانسية الغربية، يستوي في ذلك شعراء الوطن العربي والشعراء العرب في المهاجر، فاتخذوا من الليل أنيساً، وتاقوا إلى حياة الكوخ، واعتزلوا المدينة، وتغنوا بالألم، وصار الحزن نديماً لهم.
ومن هنا فقد وجد الشعراء، وبخاصة منهم الرواد: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، أنفسهم في عالم مقفر، تراجعت فيه المثل الروحية، وافتُقِدَت أواصر الحب الإنساني الذي يتشوفون إليه، فعانوا من الاغتراب أيما معاناة، وحاولوا -كل على وفق طاقاته المادية والروحية- مواجهته والرد عليه، ومن هنا بدأت أتحسس -بصفتي شاعراً- عمق تجربتهم الإبداعية التي رسمتها وبدقة تجربتهم الحياتية مثلما قادني ذلك إلى فحص منجزهم الشعري بحثاً عن الثيمات الاغترابية فيه، قصد الإحاطة بمكوناتها، ومن ثم الوقوف على المناهج التعويضية التي اعتمدوها، فكانت هذه الدراسة المتواضعة التي اشتملت على أربعة فصول:
اختص الفصل الأول بأنماط الاغتراب التي عاشها الشعراء الرواد الأربعة: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وهي: الاغتراب الاجتماعي والعاطفي، والسياسي والمكاني، والروحي، ثم استعرضت المنهج التعويضي الذي استعان به الشعراء للرد على الاغتراب، والذي اشتمل على العودة إلى الطفولة والماضي، وتأسيس المدن الحلمية واستلهام التراث فضلاً عن صيغ أخرى تفرد بها الشعراء.
وحمل الفصل الثاني عنوان ((البنية اللغوية))، وقد تحدثت فيه عن القصيدة موضوعاً لغوياً، وعن مكونات المعجم الشعري عند الرواد، وهي ألفاظ الغربة، وألفاظ الطبيعة وألفاظ الصوت، فضلاً عن ظاهرة التجسيد والتشخيص، وختمت الفصل بالحديث عن مستويي الأداء اللغوي عند الرواد، وهما: الأداء بالكلام المحكي والأداء بالموروث على صعيد اللفظة وعلى صعيد التركيب.
أما الفصل الثالث فقد خصص للبنية التصويرية، وقد تناولت في مستهله المهاد النظري للصورة الشعرية، وموقع الصورة في البناء الشعري وعلاقتها بكل من المجاز والخيال، والرمز الأسطولي، وختمت الفصل بأمثلة تطبيقية على التشكيل بالقصة، والتشكيل بالموروث، والتشكيل بالرمز الأسطوري والتشكيل بالرمز الأدبي والتشكيل بالقناع.
وفي الفصل الرابع الذي اختص بالبنية الإيقاعية، تحدثت عن أثر الموسيقى في البناء الفني ودورها في تثبيت الانفعال، وكيف تتعامل الشعراء الرواد في موضوع الاغتراب مع الإيقاع الداخلي، عبر وسائل تحقيقه وهي:
تكرار الأصوات، وأصوات ..؟.، والتدويم، وتجزئة الوزن العروضي وإلباس الألفاظ إيقاع النواة، وكذلك من خلال موسيقى الإطار، ودور الوزن في البناء الشعري، مثلما تحدثت عن أثر القافية الموسيقي، وموقف الشعراء الرواد منها، مستشهداً بأمثلة تطبيقية محددة.
وفي ختام الفصل تناولت ظاهرتين موسيقيتين لفتتا نظري تلكما هما: تنوع الأوزان، وتناوب شعر البيت وشعر التفعيلة في القصيدة الواحدة، لضرورات فنية وانفعالية، اجتهدت في تفسيرها بعدد من الأمثلة التطبيقية.
أزعم أني استخدمت المنهج التحليلي الفني، مركزاً على النص بالدرجة الأولى، مع الاستعانة -كلما دعت الحاجة- بأقاويل الشاعر ونقاده، في تحليل النص وفهمه، أو في تحليل الموقف وفهمه، شريطة أن لا يتعارض ذلك مع روح النص الذي هو جوهر العملية النقدية، بما يمتلكه من عناصر التكامل اللغوي والفني والجمالي.
ولا أزعم -بعد ذلك- أني استكملت الموضوع، فما زال فيه الكثير مما لم يُدرس، أو مما لم يُتَعَّمق في دراسته، وحسب هذا البحث أن يكون لبنة في بناء يتكامل تباعاً.
والله ولي التوفيق.
تنزيل نسخة مضغوطة عن الكتاب
http://www.awu-dam.org/book/99/study99/50-m-j/50-M-J.zip
الاغتراب -ظاهرةً- قديمةٌ قدم الإنسان في هذا الوجود. فمنذ أن تكونت المجتمعات الأولى نشأت معها وفي ظلها الأزمات التي كانت تتمخض -بشكل أو بآخر- عن أنواع من الاغتراب عانى منها الفرد، وواجهها على وفق حجم طاقاته العادية والروحية، فقد تقوده إلى التمرد والعصيان، مثلما قد تفضي به إلى الاستسلام والانعزال والانكفاء على الذات.
ويبدو أن الاغتراب قدر الشعراء العرب القدامى:
فقد تغرب امرؤ القيس حين أنكر عليه أبوه قول الشعر وخرج مغضوباً عليه في نفر من شذاذ طيء وكلب بعد أن شبب بإحدى نساء أبيه. كما عانى طرفة بن العبد من الاغتراب حين خرج على مجتمعه وتمرد على قيم القبيلة فتحامته العشيرة. وعرف عنترة العبسي الاغتراب بسبب لونه ونسبه لأمّه وهي الأمَةَ الحبشية وكان ذو الرمة ضحية الاغتراب الاجتماعي بسبب مرضه العصبي، ثم العاطفي حين أحب ((ميّة)) قرابة عشرين عاماً.
وعانى أبو تمام من اغترابات شتى: مكانية واجتماعية ونفسية حتى آمن بأن الاغتراب هو التجدد. وارتبط الاغتراب بحياة أبي الطيب المتنبي أيما ارتباط فكان نسيج وحده، افرده الهّم مثلما افرده الحسد. وكان لأبي فراس الحمداني اغترابه هو الآخر: بسبب مرارة الأسر وعذابات الشوق والحب، وعاش الشريف الرضي اغترابات حادة على رأسها اغترابه الروحي الذي تلبسه بسبب مآسي سلالته الهاشمية.
فإذا ما اقتربنا من أبي العلاء المعري أطْللْنا على ذروة اغتراب النفس، واغتراب المكان واغتراب الجسد. وهكذا يتكشف لنا الاغتراب من خلال أولئك الشعراء وسواهم عن نفوس طامحة وأرواح مجنحّة تاقتْ إلى العلو، ووجدت في الأرض جحيماً لا يُطاق.
وقد بات الاغتراب قضيةً تناولها الفلاسفة والمفكرون بالتحليل وتعقبّوها بالبحث والاستقصاء بعد نشوء المجتمع الصناعي من جهة، وقيام الحربين الكونيتين وما رافقهما من مآسٍ وويلات من جهة أخرى حتى ليصح أن يقال إنَّ في كل إنسان مغترباً.
ولقد عانى الإنسان العربي بعامة والمثقّف بخاصّة، من اغترابات شتى، واتسمت ردود فعله بأشكال شتى تراوحت بين الانسحاب من الواقع إلى هامش الحياة، أو الرضوخ للنظام القائم والاندماج في مؤسساته، أو التمرد بنوعيه: الفردي والثوري الجماعي، أو الهجرة إلى الخارج بحثاً عن فرص أفضل في الحياة.
ولابد من الإشارة إلى سببين جوهريين وراء اغتراب المثقف: يتصل الأول بقضية الحرية وما يتعلق بها من مداخلات السلطة السياسية والاجتماعية، ويتعلق الثاني بصدمة المثقف بسبب تعثّر المشروع النهضوي القومي.
وإذا انعطفنا نحو الشاعر العربي المعاصر، سنجد أنّ انعكاس الاغتراب عليه بات طردياً مع تعقيد الحياة وتعفّن أوضاع المجتمع، فالشاعر أسرع من غيره إلى الإصابة بهذا الداء لأنه يتمتع بقدر عال من الحساسية والتوتر والرهافة، ولهذا فقد عاش في اغتراب مركب لأنه ((إنسان جمعي يستطيع أن ينقل ويشكل اللاشعور أو الحياة الروحية للنوع البشري)) مثلما يقول (يونج).
ولا شك في أن اغتراب طليعة الشعراء في هذا القرن وفي الحقب اللاحقة، قادهم إلى محاكاة الرومانسية الغربية، يستوي في ذلك شعراء الوطن العربي والشعراء العرب في المهاجر، فاتخذوا من الليل أنيساً، وتاقوا إلى حياة الكوخ، واعتزلوا المدينة، وتغنوا بالألم، وصار الحزن نديماً لهم.
ومن هنا فقد وجد الشعراء، وبخاصة منهم الرواد: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، أنفسهم في عالم مقفر، تراجعت فيه المثل الروحية، وافتُقِدَت أواصر الحب الإنساني الذي يتشوفون إليه، فعانوا من الاغتراب أيما معاناة، وحاولوا -كل على وفق طاقاته المادية والروحية- مواجهته والرد عليه، ومن هنا بدأت أتحسس -بصفتي شاعراً- عمق تجربتهم الإبداعية التي رسمتها وبدقة تجربتهم الحياتية مثلما قادني ذلك إلى فحص منجزهم الشعري بحثاً عن الثيمات الاغترابية فيه، قصد الإحاطة بمكوناتها، ومن ثم الوقوف على المناهج التعويضية التي اعتمدوها، فكانت هذه الدراسة المتواضعة التي اشتملت على أربعة فصول:
اختص الفصل الأول بأنماط الاغتراب التي عاشها الشعراء الرواد الأربعة: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وهي: الاغتراب الاجتماعي والعاطفي، والسياسي والمكاني، والروحي، ثم استعرضت المنهج التعويضي الذي استعان به الشعراء للرد على الاغتراب، والذي اشتمل على العودة إلى الطفولة والماضي، وتأسيس المدن الحلمية واستلهام التراث فضلاً عن صيغ أخرى تفرد بها الشعراء.
وحمل الفصل الثاني عنوان ((البنية اللغوية))، وقد تحدثت فيه عن القصيدة موضوعاً لغوياً، وعن مكونات المعجم الشعري عند الرواد، وهي ألفاظ الغربة، وألفاظ الطبيعة وألفاظ الصوت، فضلاً عن ظاهرة التجسيد والتشخيص، وختمت الفصل بالحديث عن مستويي الأداء اللغوي عند الرواد، وهما: الأداء بالكلام المحكي والأداء بالموروث على صعيد اللفظة وعلى صعيد التركيب.
أما الفصل الثالث فقد خصص للبنية التصويرية، وقد تناولت في مستهله المهاد النظري للصورة الشعرية، وموقع الصورة في البناء الشعري وعلاقتها بكل من المجاز والخيال، والرمز الأسطولي، وختمت الفصل بأمثلة تطبيقية على التشكيل بالقصة، والتشكيل بالموروث، والتشكيل بالرمز الأسطوري والتشكيل بالرمز الأدبي والتشكيل بالقناع.
وفي الفصل الرابع الذي اختص بالبنية الإيقاعية، تحدثت عن أثر الموسيقى في البناء الفني ودورها في تثبيت الانفعال، وكيف تتعامل الشعراء الرواد في موضوع الاغتراب مع الإيقاع الداخلي، عبر وسائل تحقيقه وهي:
تكرار الأصوات، وأصوات ..؟.، والتدويم، وتجزئة الوزن العروضي وإلباس الألفاظ إيقاع النواة، وكذلك من خلال موسيقى الإطار، ودور الوزن في البناء الشعري، مثلما تحدثت عن أثر القافية الموسيقي، وموقف الشعراء الرواد منها، مستشهداً بأمثلة تطبيقية محددة.
وفي ختام الفصل تناولت ظاهرتين موسيقيتين لفتتا نظري تلكما هما: تنوع الأوزان، وتناوب شعر البيت وشعر التفعيلة في القصيدة الواحدة، لضرورات فنية وانفعالية، اجتهدت في تفسيرها بعدد من الأمثلة التطبيقية.
أزعم أني استخدمت المنهج التحليلي الفني، مركزاً على النص بالدرجة الأولى، مع الاستعانة -كلما دعت الحاجة- بأقاويل الشاعر ونقاده، في تحليل النص وفهمه، أو في تحليل الموقف وفهمه، شريطة أن لا يتعارض ذلك مع روح النص الذي هو جوهر العملية النقدية، بما يمتلكه من عناصر التكامل اللغوي والفني والجمالي.
ولا أزعم -بعد ذلك- أني استكملت الموضوع، فما زال فيه الكثير مما لم يُدرس، أو مما لم يُتَعَّمق في دراسته، وحسب هذا البحث أن يكون لبنة في بناء يتكامل تباعاً.
والله ولي التوفيق.
تنزيل نسخة مضغوطة عن الكتاب
http://www.awu-dam.org/book/99/study99/50-m-j/50-M-J.zip