المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو أن حركة وضع المصطلحات العلمية التي تجمدت في عصور الانحطاط بسبب توقف النشاط العلمي وانحسار العربية وانغلاقها قد عادت إلى النشاط من جديد حالما بدأت اللغة العربية تتجدد في مطلع القرن التاسع عشر.
[size=12]وكان ذلك القرن يمثل مرحلة انتقالية مورس خلالها وضع المصطلحات العلمية الحديثة (تعريبا أو ترجمة) من خلال اللغتين المسيطرتين في الأقطار العربية وهما الفرنسية والانكليزية واللتين رافقتا ودعمتا الحضور الأجنبي الاستعماري.
[size=12]فلقد بدأ العرب وفي مصر خاصة بالعناية بالعلوم التطبيقية ووضع مصطلحاتها بداية حسنة سليمة قامت على ترجمة المؤلفات والمنجزات العلمية إلى اللغة العربية كما درسوها في مدارسهم العليا بلغتهم العربية أول الأمر، ثم توقفوا عن ذلك قبيل انتهاء القرن التاسع عشر فأصيبت العربية بنكسة ما تزال تعاني منها حتى اليوم إذ مازالت معظم العلوم التطبيقية في الجامعات والمعاهد العليا العربية _ غير السورية - تدرس بإحدى اللغتين الانكليزية أو الفرنسية.
[size=12]وبعد الحرب العالمية الأولى صار لوضع المصطلح العلمي مؤسساته الرسمية فالمجمعان في دمشق (1919) وفي القاهرة (1932) هما اللذان عنيا بالمصطلحات العلمية الحديثة، وكانت عنايتهما لغوية لفظية، ولكنهما فتحا الطريق أمام المؤسسات والهيئات المتخصصة الأخرى في وضع المصطلحات العلمية وتوليدها.
[size=12]وأول ما فعله مجمع دمشق كان تعريب المصطلحات العسكرية للجيش العربي زمن الملك فيصل بن الحسين، وكان هم بعض أعضائه من الأطباء أن يجعلوا لغة الطب عربية صحيحة وقد فعلوا.
[size=12]أما مجمع القاهرة فقد كانت اتجاهاته معجمية شمولية في الإطار نفسه، وعلى الطريقة نفسها جرى مجمعا بغداد وعمان من بعد.
[size=12]وبعد الحرب العالمية الثانية تأثر وضع المصطلح العلمي كل التأثر بأجواء الاستقلال والحرية التي شملت المنطقة، وبالنمو الواسع للتعليم، إذ دخلت مصطلحات جديدة ما كانت بالحسبان، فولجت هذا الميدان جماعات أخرى ومؤسسات غير المجامع، إذ دخله أساتذة الجامعات بالإضافة إلى أساتذة الجامعة السورية (جامعة دمشق حاليا) الذين سبقوا في هذا المضمار، ثم دخلته مؤسسات البحث العلمي والمعاهد العليا بأنواعها.
[size=12]ولقد كثر عدد نقلة العلوم الحديثة وعدد المؤلفين في تلك العلوم، فاختلفت بهذا المصطلحات العلمية اختلافاً كبيراً، وصار هذا الاختلاف داء من أدواء لغتنا العربية، وهو ينمو ويستشرى كلما اتسعت دائرة الثقافة والعلوم في بلاد العرب.
[size=12]كما كثر المتصدون لوضع المصطلحات العلمية، سواء كان ذلك من خلال تآليفهم التي كانوا يضعونها بين أيدي طلابهم في المدارس المتخصصة العالية، أم من خلال تصنيف المعاجم العلمية المتخصصة. واستمرت أعمالهم في تزايد مستمر حتى العصر الحاضر، فإن العقد السابع من هذا القرن شهد من المعاجم الاصطلاحية المتخصصة مالم يشهده عقد في تاريخ العربية على مداه الطويل.
[size=12]وطبيعي أن تتجه جهود هؤلاء العلماء والباحثين إلى مواكبة ما تتطلبه تلك النهضة العلمية من المصطلحات الجديدة. وقد شهدت لهم مؤلفاتهم الكثيرة بأنهم بذلوا جهدهم ولم يقصروا في السعي إلى وضع المصطلحات العلمية العربية لما استجد من مفاهيم علمية، ولكن بعض المعوقات قد شتت تلك الجهود وأضعفت قيمتها العلمية. وسيتناول هذا البحث الجهود التي بذلت في وضع المصطلحات وتصنيف المعاجم العلمية في عصر النهضة الحديثة، أي منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى نهايات القرن العشرين. ولقد اقتصر البحث على مصطلحات العلوم التطبيقية دون مصطلحات العلوم الإنسانية وألفاظ الحضارة التي ليست موضوع هذا البحث، إلا ما ورد منها عرضاً ضمن سياق معين من قبل أحد الباحثين.
[size=12]وقد تتابعت الموضوعات حسب التسلسل الزمني قدر الامكان وجاءت طريقة العرض متخذة صفة الوصف والتفسير إن أمكن من غير أن يكون هناك موقف سابق يسعى إلى نصرة أحد على أحد، أو ينتصر لهذا المؤلف أو لتلك الهيئة أو المؤسسة دون غيرهما. فالمبدأ الأساس هو عرض الجهود اللغوية في المصطلح العلمي الحديث ضمن موضوعية لغوية بعيدة عن الهوى والتسرع في إصدار الأحكام ما أمكن ذلك.
[size=12]هذا وقد أفادت الدراسة من مصادر ومراجع كثيرة ومتنوعة سواء ما ألف منها في القرن الماضي أم في القرن الحالي. وسواء كانت مؤلفات علمية تدريسية أم معاجم اصطلاحية متخصصة. فكانت دراستي التي كان موضوعها(الجوانب اللغوية عند أحمد فارس الشدياق) قد فتحت لي آفاق الاهتمام بالمصطلحات العلمية والجهود اللغوية المبذولة من أجلها. وذلك لأن الشدياق اهتم بوضع المصطلحات العلمية والحضارية اهتماماً كبيراً، فقد عاش في عصر النهضة في مصر والشام ثم انتقل إلى أوربة واطلع على ما عند القوم من مخترعات ومبتكرات جديدة، فأحاط بما لم يحط به غيره في قضايا المصطلح العلمي في ذلك الوقت.
[size=12]كما أفادت الدراسة من مجموع المحاضرات التي ألقاها المرحوم مصطفى الشهابي على طلاب معهد الدراسات العربية بالقاهرة، والتي جمعها في كتاب (المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث).