مقدمة
يشكل التراث الفلسفي والسياسي للفكر الليبرالي الكلاسيكي الغربي، والفكر الماركسي سواء بسواء، سلسلة متصلة من الحلقات بعضها ببعض، على مستوى الفكر الإنساني، على الرغم مما قد تجد بينهما من تناقضات ومفارقات غاية في الجذرية والعمق، السلطة المرجعية المعرفية والنظرية والايديولوجية والثقافية، في تعريف ومفهوم المجتمع المدني بالمعني الحديث، عبر المراحل والمحطات، التي قطعها في سيرورة تطوره، وفي ارتباطه بأشكال وصور الدولة السياسية الحديثة.
وليس من فيلسوف أو مفكر سياسي مهما اسبغ على المجتمع المدني من مفهوم وتعريف مجددين يستطيع أن يكون خارج هذا الإطار المرجعي الكلاسيكي الغربي، منذ بداية عصر النهضة الأوروبية 1450- 1600، وامتداداً إلي عصر هيغل وماركس وغرامشي. ولقد أيقظت دراسة المجتمع المدني وعي الفلاسفة المختصين، والمفكرين السياسيين، من أجل بلورة المكونات المعرفية والنظرية، والايديلوجية الواضحة عنه، الأمر الذي جعل هذا المجتمع المدني، موضعاً لصراعات ايديولوجية، في سيرورة تطور المجتمع الغربي الحديث، حيث أصبح المجتمع الرأسمالي أو الصناعي التعبير التاريخي عنه بين مختلف المدارس الفكرية، سواء داخل النظرية الليبرالية بكل تفرعاتها، بداية من عصر النهضة والأنوار، باعتبارها التعبير التاريخي العام الفلسفي الايديولوجي والسياسي والاجتماعي عن المجتمع والدولة في العالم الرأسمالي الحديث والمعاصر، أو بين الليبرالية، والمدرسة الماركسية الكلاسيكية، ولعصرنا هذا.
[size=12]وفي هذا التصدي لدراسة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة السياسية وجوهر هذا التناقض المزدوج الذي يحكمها، سواء في ظل سيادة الديمقراطية البرجوازية في الغرب، أو في ظل نماذج الاشتراكية المشيدة قبل انهيارها، يهمنا أن نبدأ بتحديد المفاهيم والمنطلقات الرئيسية المرتطبة بالمجتمع عامة، والمجتمع المدني خاصة. ونحن نميز جذرياً بين المجتمع المدني القديم، باعتباره ثمرة من ثمار تطور المجتمع الانساني لحظة انفصاله عن الطبيعة، والدخول في صراع معها، من أجل السيطرة عليها، وتكييفها لتلبية حاجاته الضرورية، وباعتبار أيضاً التمدن والمدنية، خاصية متأصلة في المجتمع الانتاجي، وسمة ضرورية، وواقع تاريخي من التطور البشري، وقيمة حضارية، وإنسانية نبيلة، متولدة عن الغاية العليا، التي يعمل الاجتماع البشري على تحقيقها، متجسدة في مجموع الأخلاق وطرائق السلوك الاجتماعي، والقيم عامة، شكلت حالة من حالات جدلية الثورة الكبرى، التي عرفها التاريخ البشري، والتي قوامها السير التطوري، الذي قطعه الإنسان بفضل العمل أولاً، والنطق واللغة بعده، ليحقق وثبة قوية إلى الأمام متمثلة في ظهور عنصر جديد، انبثق مع الإنسان، على حد قول أنجلز، ألا وهو المجتمع، أو المجتمع المؤنسن، وبين المجهود العقلاني العصري للتحرر الحديث، لتحقيق المجتمع المدني المنعتق سياسياً في مناطق متعددة من العالم، باعتباره صفة جوهرية تاريخية وكونية، من صفات المجتمعات الحية السائرة في دوائر ودوران التطور والتقدم، وإن اختلفت عمقها، وشموليتها، ومداها، واتجاهها، باختلاف الشعوب والأمم والعهود، وبصرف النظر عن "التعرجات"، و"الانتكاسات"، والارتدادات المحلية المؤقتة، الحاصلة هنا وهناك، في سير حركة التاريخ الجدلية.
[size=12]ما زالت التحليلات العلمية النظرية والسياسية النقدية في مجال المجتمع العربي، ومسألة الواقع الاجتماعي والسياسي (الدولة) في الوطن العربية، في نهاية عقد الثمانيات، لم تحرز التقدم المطلوب لاجلاء الغموض والابهام، حول المفاهيم أو المقولات، وتاريخية المجتمع المدني في الوطن العربي، والوظائف السياسية والايديولوجية، التي تمارسها بعض التيارات العربية المتبنية والمستخدمة لمقولات المجتمع المدني- ضمن التغيرات الاجتماعية، وبالتالي السياسة والثقافية الايديولوجية، التي شكلت التاريخ العربي الحديث والمعاصر، وضمن عملية التوسع الرأسمالي على الصعيد العالمي، وقانون التطور اللامتكافىء الذي يحكم النظام الرأسمالي العالمي، وما افرازاه من همجية وبربرية غربية متسطلة على الشعوب والأمم المتأخرة تاريخياً، وما كرساه من واقع الظلم وعدم المساواة بين الأمم والقوميات- في إطار صراعها الفكري والثقافي، ضد القوى الاجتماعية والايديولوجية المحافظة والتقليدية المعيقة للتطور، والتي تقف كعقبة بنيوية في وجه مشروع التحرر والتقدم والوحدة، وبناء الديمقراطية والمجتمع المدني الحديث المتلازم مع انجاز الثورة القومية الديمقراطية، التي تكتسب مضموناً قومياً معادياً للامبريالية والصهيونية والرجعية العربية في آن معاً، وتقوم على كسر حلقة التبعية البنيوية، لوطننا العربي من أسارها، وقهر التأخر التاريخي العام والشامل، عبر التخطي الجدلي للحدود التاريخية لعالمية الرأسمالية، باعتبارها ضرورة موضوعية سياسية وتاريخية..