تمهيد
مهما اختلفت المعايير المستخدمة في تصنيف الثقافات البشرية من حيث التي تتبوؤها، أو من حيث وضعها في إحدى خانتين ( ثقافة متقدمة، ثقافة متخلفة )- مع التحفظ على هذا التصنيف – فإن الثقافة تبقى أحد أهم الأسباب التي تحفظ لأمة من الأمم تماسكها وتحصينها من عوامل التشرذم والتفتت والانحلال.
بالثقافة تحافظ المجتمعات على تماسكها ،وبها يتحول الكائن البشري كونه اجتماعي، فأحد أهم سمات الكائن البشري كونه اجتماعيا أي أنه مندمج في ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، وهذا ما يعنيه(هوين- كاو تري) حين يقول:
[size=12]<< نحن لا ندرك حقاَ فرادة الدور الذي تلعبه الثقافة في حياة شعب من الشعوب إلا عندما تتعرض هذه الثقافة وآلياتها غير المنظورة إلى الانحطاط إما بفعل غزو التكنولوجيا وإما نتيجة انتهاج سياسة مقصودة من الاعتداء الثقافة من أجانب أو على أيدي الوطنيين أنفسهم باسم العلم أو باسم ما يسمى تقدماَ000 >>(1)
[size=12]وتعاني شعوب كثيرة تحررت في القرن العشرين ، من جبروت الهيمنة الاستعمارية من مشكلة تتعلق بوجودها ذاته تتحلى في الهوية الثقافة. فهي سعيها إلى الحركة والانفتاح على الحضارة المعاصرة تجد نفسها وهي في الفراغ الثقافي بسبب من انبهارها بعظمة التقدم العلمي والتقني الذي بلغته الحضارة المعاصرة0 فتشعر بأنها تكاد تفقد هويتها، خاصة وأن مراكز التفوق التقني المعاصرة تمعن في تفسير أسباب تقدمها فتحيلها إلى عقلانية من سماتها سلطان العقل والعلم دون <<الإحاطة الشاملة بتعدد العقلانيات ، إذ لم يعد هنالك عقلانية علمية واحدة >>(2)0 وتشتد هذه المعاناة حين ينحصر النظر إلى الثقافة من خلال عنصري العلم والتكنولوجيا فحسب، إذ أن الثقافة من منظور تاريخي شامل تبدو أكثر شمولية وعالمية0
[size=12]وتجد أمم الأرض كافة نفسها في هذا العصر أمام المشروع الثقافي العربي بكل جبروته وسطوته وآلياته مصدراَ من مصادر الانبهار ، وكثيرة هي الشعوب التي تناست خصوصياتها وتنازلت عن كثير من مقومات هويتها فخسرت نفسها ولكنها لم تجد ضالتها في المشروع المذكور كونه لا يتعامل مع الآخرين إلا من باب الاستعلاء والإمعان في النهب الذي يطال كل شيء بما في ذلك المقومات الثقافية لشعوب الأرض خارج دائرته الخاصة 0 وهو في أساليبه تلك يعي تماماَ المدى الذي تمثله الذاتية الثقافية للشعوب التي استعمرتها ، من معوقات لاستمرار مشروعه ونموه 0 وقد تنوعت وسائل العدوان على ثقافات العالم الذي ما يزال يسمى بالعالم الثالث بوسائل شتى ، من الحملات التبشيرية التي تسترت وراء الدعوات الدينية إلى إشاعة نظم قيميه تتعارض مع المبادئ الأخلاقية لهذا العالم 0وقد تعاظم السطو الثقافي بفضل التقدم الهائل لأصحاب المشروع الغربي من حيث امتلاكهم للتكنولوجيا المتطورة وعلى الأخص وسائل الاتصال 0 فمن خلال وسائل الإعلام المختلفة يصدَر المشروع الغربي ثقافته وقيمه ونظام حياته في قالب جذاب براق حذر أو لأماني الشعوب وآمالها ومرتكزاتها الثقافية0 ولا يكتفي بذلك فحسب ولكنه حين يعوزه الأمر أبداَ عن استخدام الأسلحة التدميرية متخلياَ عن لبوسه الظاهري الذي يدعي الحرص على حقوق الإنسان وعلى القيم الديمقراطية 0
[size=12]ولعل بروز ( النظام العالمي الجديد) الذي يخضع- - شئنا ذلك أم أبينا – إلى سلطانه المؤسسات الدولية ويسوق بعصاه من يشاء حيث يشاء أو أنه يتصرف في كثير من الأحيان وفق هذا المبدأ يبرز إلى حد كبير ما ينطوي عليه المشروع الثقافي الغربي من عنجهية ونزعة عدوانية على مصالح الشعوب الثقافي المغلوبة على أمرها ، خاصة تلك تنتمي إلى الجنوب0
[size=12]ولن تجدي سياسة غمر الرأس بالرمل أحداَ 0 التخلف الاقتصادي والاجتماعي لن يفرح إلا مزيداَ من التخلف والتبعية0 والخروج من شرنقة التخلف والتبعية لا يكون ممكناَ إلا عبر الوعي بالأزمة المستحكمة والوعي بالدور الحيوي للثقافة التي تحفظ للأمة وحدة شخصيتها وتمنع عنها سيل الغزو الثقافي الذي يستهدف في النهاية وجودها 0 زلن يجدي التعري من التراث والانغماس في حضارة العصر فتيلاَ 0 لأنه يستحيل على الذات الخروج من جلدها مهما تراءى أن ذلك ممكناَ 0 في كتابه
[size=12](خوف الحرية) يشير (أريك فروم ) إلى مخاطر فقدان الذات وإحلال ذات أخرى مكانها بقولة:
[size=12]<< إن فقدان الذات وإحلال ذات مكانها يدفع الفرد إلى حالة من انعدام الاطمئنان ،
[size=12]فالشك يلاحقه ، إذ أنه أساساَ مرآة لتوقعات الآخرين منه بينما هو فقد هويته إلى حد كبير ، وفي سبيل تجاوز الهلع الناتج عن خسارة الهوية هذه نراه مضطراَ للبحث عن
[size=12]هوية ما من خلال قبول واعتراف مستمرين به من قبل الآخرين >>0
[size=12]فالوعي الثقافي يكون وعياَ بخصوص الثقافة القومية ، لكن هذا لا يعني رجعة إلى الوراء وتمسكاَ بكل ما في التراث وتنكراَ لطبيعة العصر وثقافات الأمم الأخرى 0
[size=12]فتحصين الشخصية القومية يكون بالحرص على الخصوصية الثقافية للأمة مع إفساح
[size=12]المجال واتباع كل الأساليب الممكنة التي تتيح لها التواصل مع ثقافة العصر واتجاهاته أي أنها حين تمد جذورها إلى تراثها لا تنغلق على ذاتها 0
[size=12]ويحيلنا ذلك إلى البحث في قدرة الأمة على الإنتاج ، وفي تحديد بعض ملامح التمايز الثقافي وعلاقته 0 بمفهوم الشخصية المنتجة ثم إلى إلقاء الضوء على عوامل الضعف في الفكر العربي المعاصر وفي تجليان ذلك على ضعف الإنتاجية ،وسيقودنا البحث في أسباب ضعف الإنتاجية العربية وفي آفاق الثقافة العربية واتجاهاتها إلى الحديث عن دور الإبداع في بناء المشروع الثقافي العربي والحاجة إلى الإبداع في العصر التكنولوجي ، مع رسم ملامح الطريق إلى تفتح الفكر المبدع من خلال التعرف إلى أهمية تعلم حل المشكلات والاهتمام بفعالية التفكير وتدريب المتعلمين على التفكير ونوع الطرائق التي يحتاجها وشروط تعلمه0
[size=12]إن ما يدفعنا إلى سلوك هذه الطريق التي أشرنا إلى أهم معالمها نابع من إدراك الدور الذي يقوم به التمايز الثقافي بين الأمم في الحد من تطرف أحدها وغلبته على ثقافات الأمم الأخرى وفرض نموذج وحيد لا يكون معه أي إمكان لمشاركة بناء ة من الثقافات الأخرى في إنماء حضارة إنسانية تحفظ للإنسان في أية بقعة من العالم حقه في الحياة والإسهام في تقدمها وجعلها جديرة بأن تعاش0
[size=12]وليس هذا الذي نهدف إليه بدعة وإنما هو مع تجاوب اتجاهات العصر حيث يزداد اهتمام الشعوب قاطبة بتراثها وهي تسعى من خلال مفهوم التنمية لأن تحترم شخصيتها الثقافية 0 وهذا الاهتمام نابع من حاجة أساسية لأي جماعة تمثل فيما يسمى داخل علم النفس الفردي (بالحاجة إلى تأكيد الذات ) وعلى المستوى الجماعي
[size=12]يسمى (تأكيد الهوية القومية ) من خلال التواصل مع إرث الأمة المادي والفكري
[size=12]وهذا الأمر نجده واضحاَ في سعي الشعوب الحديثة الاستقلال للبحث عن جذورها
[size=12]الثقافية كي لا تجد هويتها منقوصة
[size=12]ويشكل التمايز الثقافي عقبة كأداء في وجه مشاريع الهيمنة والاستعلاء التي يمارسها المشروع الثقافي العربي بخاصة في نمطه الأمريكي فمجتمع القارة الجديدة – في الولايات المتحدة الأمريكية – مجتمع بلا جذور يقوم على ذرائعية لا تميز في مجال القيم الجوانب الروحية من الجوانب المادية ولا تقيم لهل وزناَ ، مثل هذا المجتمع الذي يتنكر للتمايز الثقافي ينطلق من موضوعة –غير صادقة بذاتها- تتمثل في اعتقاده بتفوقه وذكائه وإقامته لمفهوم في التمايز الثقافي يتمثل في الدرجة فحسب و لا يقيم وزنا للتمايز الكيفي والنوعي
[size=12]ولا يعدم المشروع الغربي المذكور أنصاره خارج حدوده من أولئك الذين بهرهم تقدمه في المجالين العلمي والتقني لذا فهم يشددون علا أهمية الانسلاخ عن الماضي والركض وراء -مود يلات- المشروع إياه لا تعني الحياة في العصر الانخلاع من التمايز ولا تخلي الجماعات و الشعوب عن وحداتها ونحللها
[size=12]إن التمايز الثقافي من حيث أنه يستند إلى عمليات نفسيه و اجتماعيه هو دليل نمو واتجاه بالا مه نحو النضج وكلما كان التمايز واضحا فانه يعبر عن مستوى افضل في قدرة صاحبه –فردا كان أم جماعة - على تنمية الجوانب الانفعالية وألوان السلوك الدفاعي ، مما يمكن الفرد أو الجماعة من التميز عن الآخرين ويزيد في قدرته على التنظيم والتحكم في الجوانب الرئيسية للشخصية في علاقاتها المختلفة0
[size=12]يعبر الباحثون في العلوم الإنسانية عن سخطهم على كل الأنظمة التي تسعى إلى صوغ الأفراد لديها وفق قوالب محددة من خلال فضحهم للمخاطر المترتبة على ذلك من إماتة القدرة على الإبداع والتعبير وقسر الفكر وغيره 00 أيكون ذلك مقبولاَ إذا طبقناه على الجماعات والشعوب؟0
[size=12](1)التربية الجديدة – العدد 25 –23.
[size=12](2)المصدر السابق.
[/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]