كلمات البحر
خلف الجبال،
كان البحرُ يُلاطِمُ الصخورَ والشواطئ.. يُوزّعُ على الرمالِ والحصى أمواجَهُ، وأصواته، وحكاياتِهِ الكثيرةَ التي لم يسمعْها أحد.
[size=16]ما زال البحر بين المدِّ والجَزْر..
[size=16]للبحرِ قصصٌ يرويها كلَّ يوم، يتناقَلُها الموجُ والرملُ والحصى والفضاء والنجوم والليل والنهار..
[size=16]-ألا تسمع تلك الوشوشةَ يا عصام؟
[size=16]-تقصدين أصواتَ الأمواج؟
[size=16]-بالضبط.. هل تستطيع أنْ تتخيّلَ ما ستحكيهِ لنا الأمواجُ؟: أسألُكَ أنا كاتبةُ القصة، فتَشْردُ وأنت تقرأ، وبسرعة تجيبني:
[size=16]-ربّما تقول الأمواجُ: أنا حزينةٌ لأنّ البشرَ يلوّثون مياهي.. فالأوساخُ والنفاياتُ تُزعجني.. أو، تقول: أنا فرحةٌ لأنكم تعرفون السباحةَ، فتزورونني في العطل.. تلعبون، وتمرحون، وتبتهجون، فأمرح وألعب وأبتهج معكم.
[size=16]تصمتُ قليلاً وتُفكّر.. فأسألُكَ:
[size=16]-فقط هذه هي كلمات البحر؟!
[size=16]تنظر إليَّ بعمق، وتجيب:
[size=16]-أتوقّع أنّ البحرَ مليءٌ بحكايات قديمةٍ وجديدة مثلما هو مليءٌ بالمرجان والأسماك والمحار والنباتات والأسرار.. أذكرُ ما حكتْهُ لي جدَّتي ذات يوم.
[size=16]-وماذا حكَتْ جدّتُكَ؟
[size=16]تنظرُ في المدى مُسْتَذْكِراً، ثُمَّ..، تَسْردُ لي:
[size=16]-ذاتَ يوم،
[size=16]قضَيْنا نُزهتَنا في أحد الجبال المشرفةِ على البحر.. كانت الأشجارُ كثيفةً، والأعشابُ تهتزُّ مع الهواء.. والأزهارُ البريّةُ تفترش التربة بألوانٍ متعددة تُشعركِ وكأنّ العطرَ يفيضُ بالأخضرِ والأزرقِ والأحمر والليلكي والأبيض والأصفر والبرتقالي.. لَعبْنا بالمضارب.. والكرةِ، والأرجوحةِ التي نصَبَها والدي بين شجرتَيْن عملاقتين.. وعندما تعبْنا جلسْنا للطعام.. بعدَ ذلك، رحْنا نتأمل الطبيعة.. الدعسوقات الحمراءُ المنقّطةُ بالأسود كانت تسير على التربة، بين الحشائش، وعلى الجذوع والأغصان.. صوتُ العصافير والنوارس كان أنشودةً تشترك في تأليفها وعزفها أصواتُ الرياح التي تُسقط بعضَ حبّاتِ التوت البرّيّ عن الأشجار.. يومَها.. ركضتُ وراء الفراشات.. راقبتُ النمل وهو يعمل دون تعب.. حدّقتُ إلى السماء الجميلة وهي تحضن الشمسَ الذهبية.. طيورٌ كثيرة ومتنوعة كانت تحلّق.. وفجأةً..
[size=16]سمعتُ صراخَ أمي.. ركض أبي وأخوتي وجدتي.. ركضتُ إليهم.. كاد أخي الصغير يغرق لو لم يرمِ أبي نفْسَهُ في البحر وينتشله من الموج.. وبعدما حَمدْنا الله على سلامة أخي، قالت جدتي:
[size=16]البحر يحبّ الإنسان الجريء. البحارة والصيادون والغواصون أصدقاءُ الموج.. لأنهم شجعان.. وأنتم أيضاً..
[size=16]-وهل أنا مثلهم شجاع يا جدتي؟: سأل أخي الصغير الذي ارتاح قليلاً بعد الإنقاذ.
[size=16]قالت جدتي:
[size=16]-طبعاً وأنت أيضاً لأنك غامرْتَ وخضْتَ في البحر.. لكنْ، مَنْ لا يُجيدُ السباحةَ، عليهِ أنْ لا ينزل وحيداً إلى الموج، لأنه سيغرق.. وسيُسبِّبُ لأهلهِ حزناً دائماً..
[size=16]لحظتَها، خجِلَ أخي واعتذر للجميع، هنا، تدخّلتْ جدتي ونظرتْ إلينا قائلة:
[size=16]-سأروي لكم حكايةً عن البحر.
[size=16]سكتْنا كُلنا، وأصغَيْنا بانتباهٍ وشوقٍ شديدَيْن لكلماتِ الجدة المصحوبةِ بسُعالٍ خفيف:
[size=16]-في سالف الأزمان،
[size=16]كان البحر دائمَ التوتّرِ والهيجان، يُغرق البشرَ والمراكب.. وكانت مدينة من المدائن القديمة تعاني كثيراً من هذه المأساة.. لم يُفلح السَّحَرةُ والمشعوذون في تهدِئةِ البحر..
[size=16]وعندما احتار أهل تلك المدينة في أمرهم.. أرسلوا وفداً منهم إلى المعبد..
[size=16]كان كاهنُ المعبدِ رجلاً عجوز، مُلْتَحِياً، طويلَ القامة. فتَحَ للوفْدِ بوابةَ المعبدِ المزخرفة، المضاءة بالشموع، واستقبلَهُ في قاعةٍ يتصدّرها تمثالٌ ضخم..
[size=16]قال أكبر رجلٍ من الوفد:
[size=16]-أيها الكاهن، ألا تعلم كيف نكسب صداقةَ البحر؟
[size=16]هزَّ الكاهنُ رأسَهُ، فارتجفتْ لحيتُهُ، وتمايلَ لهبُ الشموع القريبة من التمثال. وبوقارٍ، حرّكَ شفتَيْه:
[size=16]-أعلم كيف يكسب الإنسان صداقة البحر..
[size=16]-ما دمْتَ تعلم، فلماذا تَدعُنا نُلاقي كلَّ تلك الكوارث؟: سأل واحدٌ من الوفد.
[size=16]صمتٌ مخيف ساد في القاعة، لم يقطعْهُ غيرُ خطواتِ الكاهن الذي دخلَ إلى غرفة أخرى، ثم خرج ومعه حمامة..
[size=16]جلس الكاهن على كرسيّه، حاضناً الحمامة بيدَيْهِ، وقال:
[size=16]-إنّ البحر يطلب أُضحيةً.
[size=16]-نحن مستعدون: بصوت واحد، قال أفرادُ الوفْد.
[size=16]-ولكنّها أُضحيةٌ بشرية.. عليكم أنْ تضحّوا بشخصٍ منكم كلَّ سنة.
[size=16]ارتبكَ رجالُ الوفد. تشاوروا في كلامِ الكاهن، ثم وقف كبيرُهُم ليقول:
[size=16]-نحن موافقون.. فمَنْ منّا سيكون الأُضحية الأولى؟
[size=16]قال الكاهن:
[size=16]-هذا ما سيقرّره التمثال. سأُطلِقُ الحمامة في فضاء القاعة، ستدور ثلاث مرّاتٍ حول رؤوسنا، وستقف على رأس التمثال.. فإذا تحرّكَ رأسُ التمثال نحو اليمين ونزفتْ عينُهُ اليُسْرى دماً، فيعني ذلك أنّ البحر يريد دائماً ابنةَ واحدٍ من أهل المدينة، وإذا تحرَّكَ رأسهُ نحو الشمال وذرفتْ عينُهُ اليُمْنى دمعاً، فهذا يعني أنّ البحر يريد دائماً ابنَ واحدٍ من أهل المدينة.
[size=16]-وما المقصود بـ(دائماً)؟: استفْهَمَ رجلٌ متوسّط العمر.
[size=16]-أي، على أهل المدينة أنْ يضحّوا كلَّ سنةٍ بفتاة إذا تحرّك رأسُ التمثال نحو اليمين، بينما يضحّون كلَّ سنة بفتىً إذا تحرّكَ رأسُ التمثال نحو الشمال.
[size=16]ولما قبِلَ الوفْدُ بهذا الحل، أطلق الكاهن الحمامة..