القسم الأول
-1-
الحاسة السادسة لم تخيّب ظني. كانت صادقة معي. ساعدتني على اكتشاف المجهول. فعندما أتصوّر أموراً غير مرئية، تتحرك أوتار السمع، تبدأ الصور تتقلبّ، والخيال يرسم الحوادث.
قالت لي: أحمل نفسك إلى البيت في إجازة، لأن الأيام القادمة ستكون صعبة، وتنبئ بحرب وشيكة. أجواؤها مشحونة بالبارود.
وهكذا حصلت على إجازة من قائد الكتيبة لعدة أيام. خلعت بذلتي العسكرية. خلعتها عن جسم، كجلد ثور جاف. قلبي يرفرف بجناحيه كطائر أُصيب بطلقة صياد.. لا أعرف من أين يأتي النزيف. أحياناً يدقّ باب الفرح، ومرات تجترع نفسي أنّات حزينة، ضباباً داخلياً مشحوناً.
عدت من إجازتي. بدأت أحزاني تتغلب على آمالي، عندما أقبلت صباحاً على باب الكتيبة، المفتوح للأرض والسماء. حركات غريبة تجاه قسم المهمات. مجندون يشكلون حلقات. تتصاعد قهقهات. ومجندون خرجوا متفرقين توّاً من مهاجعهم المتناثرة، يحملون أكياساً محشوة، وصرراً مربوطة، ممتلئة بالثياب والبذلات العسكرية، وبطانيات مستلقية براحة فوق الأكتاف. أحذية مربوطة بقوة. رؤوس تتحرك بين الدروب الترابية والصخرية. تتوزع في كل الاتجاهات أكواماً من الحجارة السود، وعلى الطريق المرصوفة، الواصلة بين ساحة الاجتماع الصباحي، ومقرّ القيادة، تظهر الفصائل متناثرة على جانبي الطريق، وأرتال من الجنود يسيرون على نحو غير منظّم.
وقفت فوق تلّة، ترتفع قليلاً خلف غرفتي. أبحرت ببصري في الجهات الأربع. رأسي يدور كأنه رشاش مثبّت على قاعدة متحركة. رافقتني في تلك اللحظات صور حَملْتها من المدينة التي تضجّ بالسيارات والباعة والجنود والمرضى والحرارة المرتفعة. هنا في هذا السهل، الهواء الجاف، تدفعه غيوم بيض، تنبض رطوبة وندى. رنَّ جرس الهاتف. بدأ يعزف موسيقا خشنة، مزعجة.
هل تصدق الحاسة السادسة؟هل ما أتوقعه سيحمله هذا الهاتف المفاجئ؟. لا.. لا شيء جديد! لقد تعودت دون أوقات محددة على رنين الهاتف، لكوني في قيادة الكتيبة. بدأت الاحتمالات تتوارد، والهاتف يستمر في رنينه، ويصطدم في جدران البلوكوس الأسمنتي.
أسرعتُ هابطاً من فوق التلّة.. ألو.. ألومين. ردّ المساعد أبو هشام : "وينْ أنت ياأخي. ساعة وأنا أعيّط عليك"
مالأمر يا أبا هشام! ماذا تريد في هذا الصباح الندي؟ لم يحن موعد الاجتماع الصباحي!
ذهبتْ الاجتماعات الصباحية يارقيب محمود دون رجعة. الوقت كان قصيراً، وأعشاش من الزنابير تئزّ فوق رأس المساعد وحول مكتبه الجنود وصف الضباط ينتظرون أدوارهم.
قال : أسرع حاملاً معك ثيابك العسكرية كي أبدّلها لك.
دخل رئيس القلم الرقيب الأول محمد. استقبلته بعينين واجمتين وسؤال:
ما الخبر؟
أجاب: الأمور طبيعية. هل من أوامر جديدة؟
كان محمد يخفي عني شيئاً. لايريد أن يعكر عليّ صباحي، وإنما استكمل جوابه بكلمة " الحمد لله على سلامتك". صحيح الإجازة قصيرة لكنها مفيدة. فيها راحة وسمر بين الزوجة والأولاد.
كان محمد فرحاً لقدومي، لأنه منذ فترة ينتظر دوره في الذهاب إلى مدينة حمص، وربما سيحصل على يوم زيادة عني.
دائماً كان يتحدث عن ابنه الوحيد. ينقل إليَّ حركاته، وكلماته المتقطعة... الآن أصبحت الإجازة في جيبه.
أسمع ضجيج الآلة الكاتبة. تتقاطع رنّات حروفها مع نبضات قلبي. الشمس ترتفع، وتنهض فوق كتف السماء، وقطرات الندى تمتصها الحرارة. تنحدر قطرات العرق منزلقة فوق جلد وجهي. حروف الآلة الكاتبة تنهض، وأخرى تلتوي بين أصابع أبي بسام " الرنكوسي".
تباشير فيها لحظة وداع، تحتضنها تجاعيد وجه "الرنكوسي"، لكنه لا يريد البوح بها. عِشْرة سنة ونصف لا يريد أن يطويها في دقيقة. هو ليس مسؤولاً عن ذلك. مجند حريص على حفظ الأسرار العسكرية.كأننا في لحظات الوداع، هكذا نطقت الحاسة السادسة. .. لا يا محمود! لم أصدّق أن أمراً إدارياً مازال في بطن الآلة. "ينقل الرقيب محمود من الكتيبة رقم. .. إلى الكتيبة رقم.. التابعة للواء. . ويأتي بدلاً عنه الرقيب عصام، دون أسباب مدوّنة في الأمر الإداري".
سبب النقل يحتفظ به قائد الكتيبة وحده، ومن حقّه، ولكن السؤال:
لماذا النقل يا ترى؟
في الوقت الذي تتحفز الكتيبة إلى جنوبي لبنان "صيدا" وتستعد لصد العدوان الصهيوني! ظلّ السؤال يؤرقني لماذا الأمر بنقلي. . أنا الرقيب محمود ؟!! وبقي يرافقني، وأنا في طريقي إلى مساعد المهمات، أحمل أمتعتي. أنتظر مع الجنود المجتمعين أمام غرفة المهمات. وضعت الكيس فوق كومة من الحجارة. جلست فوقه. مسحت العرق التموزي عن وجهي. أشعلت السيجارة العاشرة. حدقت مطّولاً أتأمل. تأكدت من الخبر، من خلال الكلمات المتقطعة بين فواصل ضحكات الجنود.. إلى صيدا. .. إلى جنوبي لبنان.. الناقورة. .. فلسطين. . العدو.. الأسلاك المكهربة.. الكيبوتسات!!..
تداخلت الأمور في ذهني، بل اختلطت! الأمر الإداري للرقيب محمود فقط، ماذا عن البقية؟
لم يحضر الجواب على الفور، لكنني تنبهتُ إلى أمر آخر، حَضَرتْ تفاصيله في لحظة غضب.. تذكرت "أنهم " طلبوا من الذاتية معلومات البطاقة الشخصية. . الأسم. الكنية. . تاريخ الولادة. . رقم المسكن.
أدرت وجهي باتجاه جندي يحمل الصمت والهدوء في بريق عينيه.
تذكرت اسمه من كثرة إجازاته المرضيّة، ونقاهاته الطبيّة. كاد أن ينهي خدمته الإلزامية. وهو يقيس الطرقات بين السهل والمدينة وبين الكتيبة والمشفى العسكري، معلول، يشكو من أمعائه.لايستطيع أن يأكل كما يشاء. يعيش على اللبن الحلو، والبطاطا المسلوقة. طال شرودي، وأنا أتمعّن في وجهه الأصفر، كالشوك اليابس.
تتداعى أفكاري. اقترب من معرفة أسمه، وكنيته "رياض شحادة"..
ارتحت قليلاً حينما سألته عن موعد الانطلاق إلى صيدا. تيقنت من الخبر، وبدأت أهذي هذياناً مشوباً بالغربة. احتقرت نفسي..
الوجع يعود إليّ وبصماتهم تلاحقني!.
ماذا يارياض بعد؟. . ألم تسمع بقوات الردع! أصبحنا من قوات الردع، وهذه الحواجز المنصوبة في أرض الكتيبة يتدرب عليها الجنود. . الرياضة صباحية، ومسائية. . القفز من فوق السطوح.. تدريبات مكثفة على القتال القريب.
البارحة كُسرت ساق بشار، عندما قفز من علو أربعة أمتار، وشُرطت يد آخر حينما كان يشدّ الحبل، وغيرهم يتلقون العلاج في مشفى المزّة العسكري. لقد سّماها بعضهم "مجزرة شد الحبل"..أرهقتنا التمارين السويدية، والجري، وسباق الضاحية، ولكن أجسامنا أصبحت تتألق، وأكثر أناقة. قطع حديثنا أبو هشام، عندما صرخ، ورفع يده " خلصوني منكما، لم يبق غيركما. هيّا أسرعا"
الوداع صعب يا أبا هشام. قلبي الذي كان يقفز على حدود الكتيبة، وفوق صخورها البازلتية، من الصعب أن يعود إلى مكانه.
الخبز والملح والسفر الطويل والعذابات الحلوة.. هل تذكر عندما تركنا دير الزور، وانطلقنا من أرض "المالحة " على طريق تدمر؟
يومان يا أبا هشام حتى وصلنا "إركيس" جنوب غربي دمشق. كيف أنسى هذه الفترة؟ من ينسى ذلك، يشبه نبتة تميد مترنحة في أرض رخوة! أرضنا صلبة يا أبا هشام، والخندق الذي يجمعنا، يقف خلفه شعب يسند ظهرنا، وسنداننا يتصلب من شدة الطرق عليه.. فلماذا اليوم تطرقون رأسي؟ وقعّ يا أبا هشام على دفتري. أصبحتُ بريء الذمّة الآن. . أمهر خاتمك وتوقيعك هنا.
في طريق عودتي إلى قيادة الكتيبة شربت آخر كأس من الشاي صنعته يد "الرنكوسي"..
ودعتهم مع قبلات ودموع. . إلى اللقاء. . إلى اللقاء!!...
-2-
الأيام تتسارع، وتمضي الشهور. سنتان أو ثلاث ستمضي. العمر همزة وصل مكسورة. سطور ملونة، كسهول بلادي، مجعّدة كتلالها.
يكاد الدم ينفر من وجهي. لم أنظر خلفي، حينما ودعت أصدقائي. . بصري يمتد. يسوح ....................التتمة في الكتاب . ( رابط التحميل في الاسفل )
تنزيل نسخة مضغوطة عن الكتاب
http://www.awu-dam.org/book/97/novel/173-ba/173-BA.zip
.......................................................................تحياتي......................................