لحظة حب
وضعت النظارة المستديرة العدسات على عينيها الذابلتين في خريف العمر.. حدّقت بي جيداً وبالفنجان المقلوب.. تناولته برفق وراحت تديره بين أصابعها وهي تنفث من لفيفة تبغ بيدها دخاناً كثيفاً: ـ سيكون لك شأن بين أقرانك.. انظري هنا.. وأومأت إلى زوج خالي الطيبة.. إنها طاقة فرج كبيرة... هناك شجرة رزق مثمرة. هاتان العينان المكحولتان بخضرة الزيتون ترمقانك من خلف ستار وجه ملاك أبيض كالنهار يُطلّ عليك من شرفة قصر مسحور.. أفعى سامّة مبتورة الذنب تحاول لدغك لكنك ستنجو من أذاها بعون الله فنجانك كلُّه بشائر ونوافذ نور ما شاء الله.. وضعت الفنجان.. رمقته بشيء من الحذر تناولته ثانية وأدارت سبابتها في قعره.. صاحت: يا ساتر. [size=12]ـ ماذا يا خالة؟ لقد أخفتني. [size=12]تنهدت طويلاً وقالت: كن حذراً يا بني فطيبة قلبك ستسبب لك المتاعب ما هذه الأعين المفقوءة البشعة وسط فنجانك؟ إنها تتربص بك... حفظك الله منها... وأخذت تقرأ وتنفخ حولي ثم أعادت الفنجان وتناولت آخر وراحت تسترسل في قراءة طالع جديد. [size=12]لم تكن السيدة ماجدة من أولئك البصَّارات اللاتي يقرأن الطالع ويحترفن معرفة المستقبل. هي تفعل ذلك مع العزيزات عليها من نسوة الحارة على سبيل التسلية وقضاء أوقات الفراغ وما أكثره في حارتنا الغافية على عتبات الزمن.. وكانت تجتذبني إليها لما تمتلكه من الكياسة وفنّ الحديث فقد حباها الله صفات خاصة من الذكاء والحنكة والقدرة على سبر أغوار الآخرين ومعرفة ما يسعدهم أو يؤرّقهم لذلك كانت كثيراً ما تصيب الهدف وتستشرف المستقبل وتقترح الحلول... في الحقيقة كنت أحب مجالستها لا لما ذكرت فحسب بل لأنها أمُّ تلك الساحرة الفاتنة التي ملكت عليّ مشاعري ومساحات تفكيري.. كانت نشوى صغرى بناتها الأربع أرق من نسيم الفجر وأنعم من خدود الورد وأعذب من الرحيق لذلك وجدتني أتردد على بيت خالي المجاور لبيتها أملاً في التنعّم برؤيتها عندما تأتي لتزورهم في بعض الأحيان وقليلاً ما كانت تفعل ومع أن قراءة الفنجان كانت تُمدّني بمشاعر فياضة وسعادة غامرة لما تبعثه في نفسي من التفاؤل والأمل فلم تكن الهدف بحد ذاتها.. كانت حجة تطيل أمد الجلسة بانتظار لحظة قد تطرق فيها الباب وتدخل. حتى إذا حان موعد الانصراف من المدارس ولم تحضر سارعتُ إلى ساحة الحيّ لمشاهدتها وهي عائدة من المدرسة الثانوية.. كنت أقف خلف خزان الكهرباء القابع في الزاوية أشبه بالمرصاد أتشوّف عن بعد. وما إن تصبح على مرمى النظر حتى أفاجئها من الطرف الآخر وكأنني مجرد عابر طريق فتنظر إليّ دون أن تعيرني أدنى انتباه غير ابتسامة لا تحمل أية إشارة أو مضمون، كانت تمشي كالحصان في ألق ورزانة ليس لها مثيل. لم يجرؤ أحد على مغازلتها أو حتى إطالة النظر إليها. كنت أحبها وأتعلق بها وأعيش على طيفها الذي لا يبرح تفكيري لحظة واحدة. [size=12]نظرتُ إلى الساعة الجدارية.. اعتذرت واستأذنت بالانصراف واتجهت عبر البهو الطويل المفضي إلى الباب الخارجي أسرع الخطا خشية أن يتعلق بي أحد الصغار فيشغلني عن المشهد الذي أعيش على انتظاره وقد حان موعد الانصراف.. فتحت الباب بقوة فإذا بها وهي تهمّ بالدخول ترتمي على صدري مثل شلال من النور راح يغمرني ببرد الأحاسيس.. حبتان من الكرز الأحمر البلدي تساقطتا فجأة على شفتيّ... ذوب من التحنان داهم قلبي الذي تسارعت دقاته.. قطعة من ثلج الشتاء تمازج وهجي... كانت لحظة ما فوق الزمان والمكان.. تسمّرتُ في مكاني وكذلك فَعَلتْ... تجمدت الكلمات في فمي ولم تنبسْ ببنت شفة... لحظة من السحر الآسر قيّدت المشهد كله كأن الزمن قد توقف عن الدوران.. كنا متعانقين فعلاً أحسست بطعم القبلة... لون العينين... دفء الذراعين... حرارة التصاق عفوي غريب... وحين استفاقت الأشياء من الذهول راحت تنسلّ منيّ مثل حمامة صغيرة بيضاء تغادر عشها للتوّ لتطير في فضاء البهو الضيق الطويل ويطير معها وخلفها كل شيء... هل أنا أحلم! حاولت استرجاع المشهد.. تلمّست رأسي.. وجهي.. كفيّ.. ليس حلماً.. ليت المشهد يعود من جديد ماذا يحدث من حولي؟! كل شيء أصبح عاتماً... رفّة النور! دفق الألق! ليس حلماً توقفت قليلاً.. تقدمت خطوة.. تراجعت أخرى يا إلهي ما الذي حدث لماذا ضاعت مني هكذا؟ لمَ لم أقفل عليها ذراعيِ وحَمي كيف سمحت لها أن تهرب... ما هذا الطعم العبقري الذائب على شفتيّ...؟ عليّ أن أعود... لكن كيف؟ لا لن أفعل... ماذا ستقول عني؟ هل هي منزعجة الآن؟ لقد كانت لحظة انفلات من أسر التوازن الطبيعي، كانت مجرد مصادفة.. يا إلهي يا إلهي! لقد كانت ملء ذراعي.. أجل ملء ذراعي عيناها في عينيْ.. شفتاها في شفتي... لا بد أنني أحلم. لا لا.. كل هذا مجرد وهم.. لقد رأيتها تبتسم.. رسمت نظرتها خطاً مزدوجاً على فضاء بصري. أقسم أنني لا أحلم... أغلقت الباب.. توقفت عن التساؤل... التراجع... التقدم.. عدت إلى الدوران.. التففت حول نفسي ماذا أفعل؟ سأقف هنا.. نعم هنا وما إن اقتربت من الباب حتى انفرج بسرعة لتندفع نحوي ثانية ويرتطم رأسها بأنفي فيوجعني بشدة.. رفعت بصري لأرى أمها تضحك بصوت عال وهي تخرج: [size=12]ـ سامر! أنت هنا؟ [size=12]ـ لقد نسيت النظارة. [size=12]كانت نشوى تمشي خلفها على استحياء وهي تبتسم وتعضّ على شفتها. [size=12]ـ تَفضّل. وأفسحتا الطريق فدخلت متراجعاً إلى الخلف أرقبهما بشغف وهما تخرجان.. هل ستلتفت..؟ ها هي ذي... يا للخيبة لقد انتهى كل شيء الآن. [size=12]ـ إذن نسيت النظارةآ؟ قالتها زوج خالي بخبث. [size=12]ـ أجل. أين... ورحت أبحث عن ماذا؟ لا أدري! [size=12]ـ لن تجدها.. [size=12]ـ ماذا تقصدين؟ [size=12]ـ أنت لا تستخدم نظارة أصلاً. [size=12]ـ آ.. في الحقيقة، لا.. [size=12]ـ سامر إنها تحبك أيضاً. [size=12]ـ ماذا؟ أصحيح.. بالله عليك. [size=12]ـ أتدري ماذا قالت؟ لا.. ماذا؟ [size=12]ـ توقفت أمام لوحتك في الصالة أبدت إعجابها الشديد. [size=12]ـ وماذا أيضاً؟ [size=12]ـ قالت ما أروع ريشته! لكن ما الذي يضطره إلى التخيل والأشياء متاحة.. [size=12]ـ متاحة! أية أشياء تقصد؟ [size=12]ـ سامر! كل من ينظر إلى اللوحة سيعرف. [size=12]ـ يعرف ماذا؟ [size=12]ـ أليس ذلك وجهها الذي جعلته يغشى اللوحة كلها؟ أتظنني غافلة عما يجري؟ [size=12]ـ ولكن... [size=12]ـ لكن ماذا يا أستاذ...؟ الأمور واضحة أهلاً.. تفضلي. [size=12]التفتُّ، تجمَدتُ ثانيةً.. أحقاً عادت.. لقد عادت.. هاهي ذي تقترب.. [size=12]ـ مرحباً سامر! أيمكن أن تسدي إليّ خدمة؟ [size=12]ـ بكل تأكيد. أنت تأمرين. [size=12]ـ سأستعير اللوحة. [size=12]ـ تأخذين البيت كله.. قالت زوج خالي. [size=12]ـ إذا شئتِ رسمتُ لك أفضلَ منها. [size=12]ـ لكنّ الوقت لا يسمح. [size=12]ـ كيف...؟ [size=12]ـ المعرض بعد أيام. [size=12]ـ معرض المدرسة. [size=12]ـ أجل [size=12]ـ كما تشائين... [size=12]نظرتُ إليها.. حملت اللوحة وخرجت ولفّ الموقف غموض شديد... خرجت أنا الآخر... لم أعد أفهم.. كل شيء انتهى كما بدأ أشبه بأحلام اليقظة... ولم أعد أفهم.. كل شيء انتهى كما بدأ أشبه بأحلام اليقظة... ولم أعد أراها. [size=12]حدث ذلك قبل عشرين عاماً. [size=12]أمسِ التقيتها في مكان ما تقدمت نحوي وأنا فعلت.. تصافحنا... واستيقظت الذاكرة. [size=12]ـ أنتَ كما كنتْ... كأنك لا تريد أن تكبر. [size=12]ـ أنت، كما أنتِ كأنك لن تكبري أبداً. [size=12]ـ أسميتَها نشوى؟ [size=12]ـ أجل، أصبحت صبية الآن. [size=12]ـ هل هي جميلة؟ [size=12]ـ مثلك تماماً... [size=12]ـ إذن هي.. [size=12]ـ جميلة جميلة جداً [size=12]ـ وأنا أسميتهُ سامر، لكنه لا يرسم. [size=12]ـ وقد أسميتهِ سامر؟! [size=12]ـ سأعرّفك به هو يدرس الطب الآن. [size=12]ـ أتشرّف إذن. [size=12]ـ هل أقرأ لكَ الفنجان؟ [size=12]ـ أتعرفين؟ [size=12]ـ تعلّمت. [size=12]ـ أما زلت تذكرين؟ [size=12]ـ وأنت؟ [size=12]ـ الذكريات...! أجمل ما يحتفظ به المرء. [size=12]ـ كنتَ في الجامعة.. [size=12]ـ كنتِ في الثانوية.. [size=12]ـ مازلت أحتفظ باللوحة.. لم أعدْها. [size=12]ـ وأنا أيضاً. [size=12]ـ أنت! لم أفهم.. [size=12]ـ هنا في الذاكرة.. أسميتُها لحظة حب. [size=12]ـ هي كذلك. [size=12]وصلت القهوة ورحنا نحسو معاً.. لفّ عالمنا صمت رهيب كانت تنتظر لحظة انتهائي.. تناولت الفنجان وشرعت تقرأ.. لم أسمع كلمة واحدة فقط غادرت المكان أحمل معي لحظة حب.. حبٍّ حتى العظم. [size=12]وانتهى اللقاء. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size] |