مُقـــــدّمــــة
ما يزال موضوع "المذاهب الأدبيّة" حيّاً يستأثر باهتمام الأوساط الأدبية في مختلف أنحاء العالم، ويشكّل قاعدة أساسية لا غنى لأي مثقفٍ عنها، سواءٌ أكان من الاختصاصيين أم المبدعين أم المستنيرين الذين يلتمسون ضياء الثقافة وتكامل المعرفة. ونحن ما نفتأ نتحدث في معالجتنا أمور الأدب، عن الواقعية والرومانسية والرمزية والتقليد والتجديد والحداثة والمثاقفة وعلاقة الأدب بالفلسفة والفن والمجتمع والبيئة والأشكال والنماذج والتطور والاتجاهات، ونتحدث عن أعلام الأدب المتواصلة عبر الزمان والآفاق، كنهر تنعكس على صفحته الصافية كل ظلال الضفاف.. وهذا وسواه لا يخرج عن نطاق المذاهب ولا غَناء له عنها البتّة. فالمذاهب هي الحاضرة الغائبة، وهي تاريخٌ جوهري لأهم العطاءات الإنسانيّة الحضاريّة. وما التاريخ إلا سلسلة متواصلة وقوانين حركة، وتطوّر وتشابك، وماضٍ في الحاضر، وحاضرٌ في المستقبل.. وتتعاقب المذاهب كما تتعاقب الأمواج، كل موجة تدفع التي قبلها، وتدفعها التي خلفها. وكلّها في بحر واحد، ترتطم على شاطئ واحد، وتختلط أصداؤها وتتلاشى لتعود في أمواجٍ جديدة إلى الأبد، وما الأمواج إلاّ البحر في مظاهره وأسراره..
ولا يفْقَهُ الأدبَ ويقدّره حقّ قدْره من لم يكن ملّماً بمذاهبه وتطوّراته والعوامل المؤثرة فيه ومزايا كل مذهبٍ أو مرحلة، ومسوّغات نشوئها وتغيّرها.. إنها العموميات التي لا عِلْمَ إلاّ بها.
ولم تعد المذاهب الأدبيّة الغربية في القرون الخمسة الأخيرة مقتصرة على آداب الغرب بقدر ما أضحت معطياتها مائدة عالميّة مشتركة (فالأدب نتاج إنساني يخضع للشروط نفسها، ولئن اختلفت سماتها فهي تشترك حتماً في نواميس واحدة، وتتواصل فيما بينها وتتفاعل متبادلة التأثير والتأثر.
ونحن- العرب- أدنى شعوب العالم إلى أوربا، بحكم موقعنا الجغرافي وعلاقاتنا التاريخية والاقتصادية والثقافية، فلا مراء في أننا نشاركها التفاعل الأدبي أخذاً وعطاءً، وأن ما يجري هنا، أو هناك، سرعان ما تسري أصداؤه إلى الطرف الآخر..
وفي أدبنا الحديث معالم ومدارس تجد فيها الأصالة والاتباع إلى جانب التجديد المتأثر بما لدى الغرب من مذاهب، فقد قبسنا في العصر الحديث كثيراً من إشعاعات الآداب الغربية في جملة ما قبسنا من الأشكال الحضارية والثقافية والعلميّة، واطلع أدباؤنا ومفكرونا على الآداب الغربية، ومذاهبها وما كتب فيها من الدراسات إنْ بطريق الاتصال المباشر أو الترجمة والتأليف، وما تزال تدرّس في جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا المدارس الأدبية الغربيّة ونوالي فيها التأليف والترجمة لتكون لنا عوناً في تفقه الأداب وضَوْءاً يكشف كثيراً من خصائص أدبنا الحديث والمعاصر والتيارات التي تجري ضمنه وتعمل فيه. فمما لا شك فيه أنا تأثرنا بالآداب الغربية تأثراً كبيراً دون إغفالنا معطياتِ الأصالة التراثيّة المستمرّة.
وما هذا الكتاب إلاّ محاولةٌ متواضعة في هذا المنحى التثاقفي إلى جانب المحاولات الأخرى التي سبقته. ولستُ أدعي فيه شيئاً من إبداعي وكشفي، ولكنه "تأليف" بين خلاصات أجنبيّة وعربيّة آلفُت به بين شتى المعارف المتحصلة، وأكملت بعضها ببعض متجاوزاً الحدود السابقة إلى حدود جديدة، وسلكتُ نهجاً بين الاختصار والتطويل، وجمعت بين النظر والتطبيق، وربطت بين المدارس وأعلامها ونتاجها مع الاهتمام بالمزايا الخصوصية ضمن المذهب العام، وأبرزت معالم الإنتاج الأدبي وإطاراته الزمانية والمكانية والاجتماعية، ومهدّت لكلّ مذهب بلمحة عن أسباب نشوئه وارتباطه بالمذاهب السابقة، فما من شيء يولد طفرة، ثم انتهيت بأسباب تلاشي المذهب وتمهيده لمذهب جديد، وبينت اختلاط المؤثرات المختلفة ضمن المذهب الواحد، وتباين ألوانه باختلاف أدبائه وهكذا جمعتُ في إطارٍ واحد بين التنظير النقدي والتاريخ الأدبي بشكل موجز رجوت منه أن يقنع ناشد الثقافة، ويوجّه سواه من الراغبين في الاتساع إلى طريق الاستزادة، وأحبّ الإشارة إلى أن معظم النصوص التي أوردتها هي من ترجمتي عن الفرنسية أما سواها فقد أشرتُ إلى المصدر الذي استعرْتها منه، وأني اعتمدت في المعلومات على كثير من الكتب العربية والفرنسية، وقد أشرت إلى المصدر فيما وجدت فيه خصوصية من الرأي، أما ما شاع وعرف فلم أجد داعياً إلى ذكر مصدره. وقد حاولت أن أضيف الجديد إلى المألوف واستدرك النقص وأقتطف قدر الإمكان ما جدّ من الكشوف والآراء.
وحرصتُ على أن أُصنّف كلّ بحث في فقرات وعنوانات واضحة المعالم، ولا تخفى على القارئ هذه الطريقة المناسبة للطرائق المدرسية الميسّرة.
وإنني إذ لا أدعي غيرَ جُهد الجمع والاختيار والتأليف والتنسيق لأرجو أن أكونَ قد وُفقت إلى صنع كتاب يجمع بين الفائدة والمتعة وبين النظر والتطبيق ويربط بين المراحل والمذاهب بسلسلة التطور المتواصلة ويكشف عن الأسباب والعلل والمؤثرات والنتائج بفكر مرتّبٍ وأسلوب واضح، ولعلّ القارئ يجدُ فيه نزهة ثقافية لطيفة في شِعاب المعرفة الأدبيّة، تزيد من وعْيه لطبيعة الأدب وآفاقه، فتكون للدارس خير معين وللمبدِع خير منوّر ودليل.
عـــــبد الــــرزاق الأصفــــر
1998
تنزيل نسخة مضغوطة عن الكتاب
http://www.awu-dam.org/book/99/study99/261-a-a1/261-A-A1.zip
ما يزال موضوع "المذاهب الأدبيّة" حيّاً يستأثر باهتمام الأوساط الأدبية في مختلف أنحاء العالم، ويشكّل قاعدة أساسية لا غنى لأي مثقفٍ عنها، سواءٌ أكان من الاختصاصيين أم المبدعين أم المستنيرين الذين يلتمسون ضياء الثقافة وتكامل المعرفة. ونحن ما نفتأ نتحدث في معالجتنا أمور الأدب، عن الواقعية والرومانسية والرمزية والتقليد والتجديد والحداثة والمثاقفة وعلاقة الأدب بالفلسفة والفن والمجتمع والبيئة والأشكال والنماذج والتطور والاتجاهات، ونتحدث عن أعلام الأدب المتواصلة عبر الزمان والآفاق، كنهر تنعكس على صفحته الصافية كل ظلال الضفاف.. وهذا وسواه لا يخرج عن نطاق المذاهب ولا غَناء له عنها البتّة. فالمذاهب هي الحاضرة الغائبة، وهي تاريخٌ جوهري لأهم العطاءات الإنسانيّة الحضاريّة. وما التاريخ إلا سلسلة متواصلة وقوانين حركة، وتطوّر وتشابك، وماضٍ في الحاضر، وحاضرٌ في المستقبل.. وتتعاقب المذاهب كما تتعاقب الأمواج، كل موجة تدفع التي قبلها، وتدفعها التي خلفها. وكلّها في بحر واحد، ترتطم على شاطئ واحد، وتختلط أصداؤها وتتلاشى لتعود في أمواجٍ جديدة إلى الأبد، وما الأمواج إلاّ البحر في مظاهره وأسراره..
ولا يفْقَهُ الأدبَ ويقدّره حقّ قدْره من لم يكن ملّماً بمذاهبه وتطوّراته والعوامل المؤثرة فيه ومزايا كل مذهبٍ أو مرحلة، ومسوّغات نشوئها وتغيّرها.. إنها العموميات التي لا عِلْمَ إلاّ بها.
ولم تعد المذاهب الأدبيّة الغربية في القرون الخمسة الأخيرة مقتصرة على آداب الغرب بقدر ما أضحت معطياتها مائدة عالميّة مشتركة (فالأدب نتاج إنساني يخضع للشروط نفسها، ولئن اختلفت سماتها فهي تشترك حتماً في نواميس واحدة، وتتواصل فيما بينها وتتفاعل متبادلة التأثير والتأثر.
ونحن- العرب- أدنى شعوب العالم إلى أوربا، بحكم موقعنا الجغرافي وعلاقاتنا التاريخية والاقتصادية والثقافية، فلا مراء في أننا نشاركها التفاعل الأدبي أخذاً وعطاءً، وأن ما يجري هنا، أو هناك، سرعان ما تسري أصداؤه إلى الطرف الآخر..
وفي أدبنا الحديث معالم ومدارس تجد فيها الأصالة والاتباع إلى جانب التجديد المتأثر بما لدى الغرب من مذاهب، فقد قبسنا في العصر الحديث كثيراً من إشعاعات الآداب الغربية في جملة ما قبسنا من الأشكال الحضارية والثقافية والعلميّة، واطلع أدباؤنا ومفكرونا على الآداب الغربية، ومذاهبها وما كتب فيها من الدراسات إنْ بطريق الاتصال المباشر أو الترجمة والتأليف، وما تزال تدرّس في جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا المدارس الأدبية الغربيّة ونوالي فيها التأليف والترجمة لتكون لنا عوناً في تفقه الأداب وضَوْءاً يكشف كثيراً من خصائص أدبنا الحديث والمعاصر والتيارات التي تجري ضمنه وتعمل فيه. فمما لا شك فيه أنا تأثرنا بالآداب الغربية تأثراً كبيراً دون إغفالنا معطياتِ الأصالة التراثيّة المستمرّة.
وما هذا الكتاب إلاّ محاولةٌ متواضعة في هذا المنحى التثاقفي إلى جانب المحاولات الأخرى التي سبقته. ولستُ أدعي فيه شيئاً من إبداعي وكشفي، ولكنه "تأليف" بين خلاصات أجنبيّة وعربيّة آلفُت به بين شتى المعارف المتحصلة، وأكملت بعضها ببعض متجاوزاً الحدود السابقة إلى حدود جديدة، وسلكتُ نهجاً بين الاختصار والتطويل، وجمعت بين النظر والتطبيق، وربطت بين المدارس وأعلامها ونتاجها مع الاهتمام بالمزايا الخصوصية ضمن المذهب العام، وأبرزت معالم الإنتاج الأدبي وإطاراته الزمانية والمكانية والاجتماعية، ومهدّت لكلّ مذهب بلمحة عن أسباب نشوئه وارتباطه بالمذاهب السابقة، فما من شيء يولد طفرة، ثم انتهيت بأسباب تلاشي المذهب وتمهيده لمذهب جديد، وبينت اختلاط المؤثرات المختلفة ضمن المذهب الواحد، وتباين ألوانه باختلاف أدبائه وهكذا جمعتُ في إطارٍ واحد بين التنظير النقدي والتاريخ الأدبي بشكل موجز رجوت منه أن يقنع ناشد الثقافة، ويوجّه سواه من الراغبين في الاتساع إلى طريق الاستزادة، وأحبّ الإشارة إلى أن معظم النصوص التي أوردتها هي من ترجمتي عن الفرنسية أما سواها فقد أشرتُ إلى المصدر الذي استعرْتها منه، وأني اعتمدت في المعلومات على كثير من الكتب العربية والفرنسية، وقد أشرت إلى المصدر فيما وجدت فيه خصوصية من الرأي، أما ما شاع وعرف فلم أجد داعياً إلى ذكر مصدره. وقد حاولت أن أضيف الجديد إلى المألوف واستدرك النقص وأقتطف قدر الإمكان ما جدّ من الكشوف والآراء.
وحرصتُ على أن أُصنّف كلّ بحث في فقرات وعنوانات واضحة المعالم، ولا تخفى على القارئ هذه الطريقة المناسبة للطرائق المدرسية الميسّرة.
وإنني إذ لا أدعي غيرَ جُهد الجمع والاختيار والتأليف والتنسيق لأرجو أن أكونَ قد وُفقت إلى صنع كتاب يجمع بين الفائدة والمتعة وبين النظر والتطبيق ويربط بين المراحل والمذاهب بسلسلة التطور المتواصلة ويكشف عن الأسباب والعلل والمؤثرات والنتائج بفكر مرتّبٍ وأسلوب واضح، ولعلّ القارئ يجدُ فيه نزهة ثقافية لطيفة في شِعاب المعرفة الأدبيّة، تزيد من وعْيه لطبيعة الأدب وآفاقه، فتكون للدارس خير معين وللمبدِع خير منوّر ودليل.
عـــــبد الــــرزاق الأصفــــر
1998
تنزيل نسخة مضغوطة عن الكتاب
http://www.awu-dam.org/book/99/study99/261-a-a1/261-A-A1.zip