المقدمة: للمترجم
إذا كانت الترجمة كعلم له قواعد ونظريات لم تنشط إلاّ مع بزوغ فجر القرن العشرين، فإن هذا النشاط في حد ذاته كان موجوداً منذ الأزل، إذ مارسه البشر، سواء عن طريق الإيماء أو الإشارة أو الكلام أو الكتابة، على مر العصور، فتبادلوا المعلومات فيما بينهم وتزاوجت الثقافات والحضارات فيما بينها أيضاً.
كانت الترجمة ولازالت بمثابة الجسر التي تعبر الثقافات من خلاله إلى باقي المجتمعات من حولها دون أي جواز فهي تلعب دوراً كبيراً في خلق الحوار بين الآداب المختلفة، وتضييق الفجوة بين مختلف الحضارات والثقافات وتهيء الظروف لإيجاد أدب عالمي مشترك، كما أن موضوع الترجمة يقودنا إلى مدى العلاقة بين المؤلف والمترجم، وإلى الحديث عن الترجمة كعملية إبداعية، وبعد التمعن في مقومات الترجمة وأساليبها نلمس عدم الفرق البعيد بين التأليف والترجمة فكلاهما عمل إبداعي، لأن المترجم عادة لاينتج نصه المترجم دفعة واحدة، بل عليه أن ينتقي الكلمة واللفظ كمصطلح، والأسلوب والمعنى كالتوأم، مرة بعد مرة قبل أن يصل نتاجه إلى يد القارئ.
لابد للمترجم من أن يتمتّع بكفاءة عالية وحس أدبي وفني مرهف بالنسبة لنتاجه وبانسجام بليغ مع مؤلفه حتى يتمكن من نقل الكلمات والجمل والصور بدقة وبأقل ما يمكن من التفريط بالأمانة، وإذا كانت الترجمة في السابق تنال النصوص الأدبية بشكل موسع مع الاقتصار على القليل من النصوص التقنية، غير أن أهميتها تزداد يوماً بعد يوم، دون أن تخلو من التعقيدات، بالنظر إلى التقدم العلمي الهائل الذي يثري اللغة العربية كل يوم بمفردات ومصطلحات جديدة، وكل ذلك يتطلب الدقة والاتقان والإبداع من قبل المترجم.
لقد كانت الترجمة وماتزال دعامة النهضات الفكرية والثقافية للشعوب وعن طريق الترجمة بدأت النهضة الثقافية في عصر الإسلام الأولى، إذ أدرك الخلفاء حاجة الأمة إلى استخدام غذائها الفكري، فتدفقت بواسطة الترجمة الوديان من مختلف الثقافات العالمية إلى النهر العربي. ولقد نهضت الترجمة لدى كل الشعوب بدور جوهري بالنسبة للتاريخ المعرفي وكانت أبرز ظاهرة لنا نحن العرب من حيث الاستقبال أو الإرسال، حيث كان العرب من السابقين في اعتماد الترجمة كمؤسسة رسمية من مؤسسات الدولة، وذلك في بداية الدولة الإسلامية، فما بالنا إذا لم نجزها حقها اليوم في هذا العصر الحديث، عصر التفجر العلمي والثورة العلمية والتقنية، لاسيما وقد اتسعت الفجوة بين الشعوب المصنعة وشعوب أخرى قعدت أو تهاونت عن العمل والسعي، وصار بينها وبين الأمم المتقدمة بون شاسع لابد من اجتيازه وخرق واسع لابد من رتقه، ولكي يصبح بالإمكان معاصرة الحضارة بمستوى فعّال ومبدع، وليس بمعاصرة مستهلكة منفعلة وتابعة، لابد من بذل الجهود المكثفة نحو نقل العلوم والتقنيات الحديثة إلى العربية على غرار ما تم خلال القرنين الثاني والثالث الهجري، وأيضاً على غرار ما تم في أوروبا في القرن الخامس عشر. أي في فجر النهضة الأوروبية حيث نشطت خلالها الترجمة من العربية إلى اللاتينية عن طريق مؤسسات ولجان وطنية أو أجنبية لهذا الغرض، سعت إلى التطعيم من شجرة العلم العربية عن طريق نقل وترجمة الكتب المناسبة من شعر وأدب وفلك ورياضيات.
لقد كانت لغتنا العربية الأبية من أمضى الأسلحة في تاريخنا ومعاركنا الثقافية، وإن عجز الأمة العربية في هذه المواكبة، ينحصر في العلوم التقنية الحديثة فقط دون الأخرى من أدبية واجتماعية وغيرها، لذلك فإن هذا العجز لايعني قصور لغتنا بل يعني تقصيرنا نحن، لأن لغتنا أثبتت على مدى تاريخها العريق أنها لاتعوزها خصائص النماء والتطور ولاطاقات التوليد والتجدد. بل كانت وعاء المعرفة المتقدمة لعدة قرون في العصر الوسيط، كما بقيت مرجعاً لعالم ما حولها كان قد نقل عنها شعائر الدين الإسلامي، عقيدة وشريعة.
لذلك لابد من أجل الوصول إلى مستوى المواكبة لهذه التقنية المتدفقة بجديدها من مفردات ومصطلحات ومخترعات، من اتساع دائرة الترجمة والتعريب بمسعى حثيث، ومتكامل ومترابط مع بقية الفعاليات، فالترجمة هي الوسيلة المفضّلة للتعرف على مالدى الآخرين من تقنيات وأفكار مفيدة وغنية، وأيضاً بالمقابل لتعريف الآخرين على مالدينا، بكون الثقافة أخذ وعطاء وليست مسيرة وحيدة الاتجاه وهي بمجموعها مرحلة متتابعة باستمرار لابد من المرور بها لترجمة وتعريب كل مفيد من علوم وتعليم، ولإثراء اللغة العربية وجعلها في عداد اللغات العصرية بعلومها وآدابها وفنونها وتقنياتها المتعددة.
من هذه المنطلقات، تبدو الترجمة والتعريب شكلاً من أشكال الكفاح القومي، ومرابطة فعالة على الجبهة الأخطر من مجمل الجبهات وأعني بها الجبهة القومية، تلك الجبهة التي بقيت عصية على الاختراق حتى في أحلك سنوات الغزو الخارجي وأشدها ضراوة. مع العلم بأن الغزو الثقافي هو أخطر أشكال الغزو الذي تعرضت له الأمة العربية، غير أن لغتنا العربية الأبية كانت ولاتزال من أمضى الأسلحة في معاركنا الثقافية
لقد قامت الترجمة، في تاريخ المعرفة، لدى كل الشعوب بدور أساسي وجوهري، وبالنسبة لنا نحن العرب كانت أبرز ظاهرة مستساغة من حيث الاستقبال والارسال، فإذا ما تفحصنا جملة السائرين في عمق البحر الخضم من جيش الكتاب بمختلف اختصاصاتهم، نجد العاملين بالترجمة بمثابة جنود المشاة. فمهمة الترجمة شاقة ومستمرة إلى حد ما على صعيد العمل اليومي، خاصة عندما يصل الجهد إلى المشقة عندما يندرج عملها ضمن مهمة عالمية مستحقة.
إن الأمة العربة بجميع أطرافها تنشد الوحدة، ولساننا العربي هو الدعاية الأولى والمرتكز الأهم والأرسخ لهذه الوحدة، ولا لساناً عربياً فعالاً ومتطوراً دون تملُكْ القدرة الكافية على التعريب والترجمة التي تُمكّن من معاصرة الحضارة الإنسانية، معاصرة منتجة فعالة ومبدعة، لا معاصرة مستهلكة، منفعلة، وتابعة.
لقد كانت الترجمة وستبقى رغم تعدد وسائل الاتصال من أهم جسور التواصل بين الأمم، خاصة، بعد أن دخل العالم الغربي عصر الذرة -الفضاء- الحاسبات الالكترونية والخ.. وبعد أن توسعت الترجمة بقدر يمكن من الاطلال على القرن الحادي والعشرين والمشاركة في صنعه.
وعلى تراث الأقدمين شاد المجدون صرح حضارتهم بما حصلوا من علوم الأوائل، ومن علوم ابتدعوها بتفكيرهم وبجهودهم، فربطوا الحاضر بالماضي للمستقبل.
وهذا الكتاب الذي بين الأيدي يتناول الترجمة (تاريخها- قواعدها- تطورها- وتفرعها إلى أنواع عديدة تلبيةً لحاجات المجتمع فقد تناول من حيث العلوم والتقنيات مثل: (المصطلح- التعريب- وترجمات: الشعر -القصة - المسرح- السينما -المؤتمرات -الكلاسيكية- الدبلجة- الفورية- التقنية- والعلمية، وغيره. كما تطرق إلى أثر الترجمة قديماً وحديثاً وإلى أسماء أساطين المترجمين في السابق، وفي عصر النهضة وأوائل القرن العشرين.
نأمل أن نكون قد أضفنا إلى المكتبة العربية مرجعاً جديداً عن حركة الترجمة تاريخها- قواعدها- تطورها- آثارها- في خدمة الثقافة الجماهيرية، التي لابد من تصفحها والاطلاع عليها من قبل أي مهتم بأمور الترجمة وفائدتها في زيادة وعي الجماهير واقتباس كل جديد، والله الموفق.
سالم العيسى
تنزيل نسخة مضغوطة عن الكتاب
http://www.awu-dam.org/book/99/study99/194-ss-a/194-SS-A.zip
إذا كانت الترجمة كعلم له قواعد ونظريات لم تنشط إلاّ مع بزوغ فجر القرن العشرين، فإن هذا النشاط في حد ذاته كان موجوداً منذ الأزل، إذ مارسه البشر، سواء عن طريق الإيماء أو الإشارة أو الكلام أو الكتابة، على مر العصور، فتبادلوا المعلومات فيما بينهم وتزاوجت الثقافات والحضارات فيما بينها أيضاً.
كانت الترجمة ولازالت بمثابة الجسر التي تعبر الثقافات من خلاله إلى باقي المجتمعات من حولها دون أي جواز فهي تلعب دوراً كبيراً في خلق الحوار بين الآداب المختلفة، وتضييق الفجوة بين مختلف الحضارات والثقافات وتهيء الظروف لإيجاد أدب عالمي مشترك، كما أن موضوع الترجمة يقودنا إلى مدى العلاقة بين المؤلف والمترجم، وإلى الحديث عن الترجمة كعملية إبداعية، وبعد التمعن في مقومات الترجمة وأساليبها نلمس عدم الفرق البعيد بين التأليف والترجمة فكلاهما عمل إبداعي، لأن المترجم عادة لاينتج نصه المترجم دفعة واحدة، بل عليه أن ينتقي الكلمة واللفظ كمصطلح، والأسلوب والمعنى كالتوأم، مرة بعد مرة قبل أن يصل نتاجه إلى يد القارئ.
لابد للمترجم من أن يتمتّع بكفاءة عالية وحس أدبي وفني مرهف بالنسبة لنتاجه وبانسجام بليغ مع مؤلفه حتى يتمكن من نقل الكلمات والجمل والصور بدقة وبأقل ما يمكن من التفريط بالأمانة، وإذا كانت الترجمة في السابق تنال النصوص الأدبية بشكل موسع مع الاقتصار على القليل من النصوص التقنية، غير أن أهميتها تزداد يوماً بعد يوم، دون أن تخلو من التعقيدات، بالنظر إلى التقدم العلمي الهائل الذي يثري اللغة العربية كل يوم بمفردات ومصطلحات جديدة، وكل ذلك يتطلب الدقة والاتقان والإبداع من قبل المترجم.
لقد كانت الترجمة وماتزال دعامة النهضات الفكرية والثقافية للشعوب وعن طريق الترجمة بدأت النهضة الثقافية في عصر الإسلام الأولى، إذ أدرك الخلفاء حاجة الأمة إلى استخدام غذائها الفكري، فتدفقت بواسطة الترجمة الوديان من مختلف الثقافات العالمية إلى النهر العربي. ولقد نهضت الترجمة لدى كل الشعوب بدور جوهري بالنسبة للتاريخ المعرفي وكانت أبرز ظاهرة لنا نحن العرب من حيث الاستقبال أو الإرسال، حيث كان العرب من السابقين في اعتماد الترجمة كمؤسسة رسمية من مؤسسات الدولة، وذلك في بداية الدولة الإسلامية، فما بالنا إذا لم نجزها حقها اليوم في هذا العصر الحديث، عصر التفجر العلمي والثورة العلمية والتقنية، لاسيما وقد اتسعت الفجوة بين الشعوب المصنعة وشعوب أخرى قعدت أو تهاونت عن العمل والسعي، وصار بينها وبين الأمم المتقدمة بون شاسع لابد من اجتيازه وخرق واسع لابد من رتقه، ولكي يصبح بالإمكان معاصرة الحضارة بمستوى فعّال ومبدع، وليس بمعاصرة مستهلكة منفعلة وتابعة، لابد من بذل الجهود المكثفة نحو نقل العلوم والتقنيات الحديثة إلى العربية على غرار ما تم خلال القرنين الثاني والثالث الهجري، وأيضاً على غرار ما تم في أوروبا في القرن الخامس عشر. أي في فجر النهضة الأوروبية حيث نشطت خلالها الترجمة من العربية إلى اللاتينية عن طريق مؤسسات ولجان وطنية أو أجنبية لهذا الغرض، سعت إلى التطعيم من شجرة العلم العربية عن طريق نقل وترجمة الكتب المناسبة من شعر وأدب وفلك ورياضيات.
لقد كانت لغتنا العربية الأبية من أمضى الأسلحة في تاريخنا ومعاركنا الثقافية، وإن عجز الأمة العربية في هذه المواكبة، ينحصر في العلوم التقنية الحديثة فقط دون الأخرى من أدبية واجتماعية وغيرها، لذلك فإن هذا العجز لايعني قصور لغتنا بل يعني تقصيرنا نحن، لأن لغتنا أثبتت على مدى تاريخها العريق أنها لاتعوزها خصائص النماء والتطور ولاطاقات التوليد والتجدد. بل كانت وعاء المعرفة المتقدمة لعدة قرون في العصر الوسيط، كما بقيت مرجعاً لعالم ما حولها كان قد نقل عنها شعائر الدين الإسلامي، عقيدة وشريعة.
لذلك لابد من أجل الوصول إلى مستوى المواكبة لهذه التقنية المتدفقة بجديدها من مفردات ومصطلحات ومخترعات، من اتساع دائرة الترجمة والتعريب بمسعى حثيث، ومتكامل ومترابط مع بقية الفعاليات، فالترجمة هي الوسيلة المفضّلة للتعرف على مالدى الآخرين من تقنيات وأفكار مفيدة وغنية، وأيضاً بالمقابل لتعريف الآخرين على مالدينا، بكون الثقافة أخذ وعطاء وليست مسيرة وحيدة الاتجاه وهي بمجموعها مرحلة متتابعة باستمرار لابد من المرور بها لترجمة وتعريب كل مفيد من علوم وتعليم، ولإثراء اللغة العربية وجعلها في عداد اللغات العصرية بعلومها وآدابها وفنونها وتقنياتها المتعددة.
من هذه المنطلقات، تبدو الترجمة والتعريب شكلاً من أشكال الكفاح القومي، ومرابطة فعالة على الجبهة الأخطر من مجمل الجبهات وأعني بها الجبهة القومية، تلك الجبهة التي بقيت عصية على الاختراق حتى في أحلك سنوات الغزو الخارجي وأشدها ضراوة. مع العلم بأن الغزو الثقافي هو أخطر أشكال الغزو الذي تعرضت له الأمة العربية، غير أن لغتنا العربية الأبية كانت ولاتزال من أمضى الأسلحة في معاركنا الثقافية
لقد قامت الترجمة، في تاريخ المعرفة، لدى كل الشعوب بدور أساسي وجوهري، وبالنسبة لنا نحن العرب كانت أبرز ظاهرة مستساغة من حيث الاستقبال والارسال، فإذا ما تفحصنا جملة السائرين في عمق البحر الخضم من جيش الكتاب بمختلف اختصاصاتهم، نجد العاملين بالترجمة بمثابة جنود المشاة. فمهمة الترجمة شاقة ومستمرة إلى حد ما على صعيد العمل اليومي، خاصة عندما يصل الجهد إلى المشقة عندما يندرج عملها ضمن مهمة عالمية مستحقة.
إن الأمة العربة بجميع أطرافها تنشد الوحدة، ولساننا العربي هو الدعاية الأولى والمرتكز الأهم والأرسخ لهذه الوحدة، ولا لساناً عربياً فعالاً ومتطوراً دون تملُكْ القدرة الكافية على التعريب والترجمة التي تُمكّن من معاصرة الحضارة الإنسانية، معاصرة منتجة فعالة ومبدعة، لا معاصرة مستهلكة، منفعلة، وتابعة.
لقد كانت الترجمة وستبقى رغم تعدد وسائل الاتصال من أهم جسور التواصل بين الأمم، خاصة، بعد أن دخل العالم الغربي عصر الذرة -الفضاء- الحاسبات الالكترونية والخ.. وبعد أن توسعت الترجمة بقدر يمكن من الاطلال على القرن الحادي والعشرين والمشاركة في صنعه.
وعلى تراث الأقدمين شاد المجدون صرح حضارتهم بما حصلوا من علوم الأوائل، ومن علوم ابتدعوها بتفكيرهم وبجهودهم، فربطوا الحاضر بالماضي للمستقبل.
وهذا الكتاب الذي بين الأيدي يتناول الترجمة (تاريخها- قواعدها- تطورها- وتفرعها إلى أنواع عديدة تلبيةً لحاجات المجتمع فقد تناول من حيث العلوم والتقنيات مثل: (المصطلح- التعريب- وترجمات: الشعر -القصة - المسرح- السينما -المؤتمرات -الكلاسيكية- الدبلجة- الفورية- التقنية- والعلمية، وغيره. كما تطرق إلى أثر الترجمة قديماً وحديثاً وإلى أسماء أساطين المترجمين في السابق، وفي عصر النهضة وأوائل القرن العشرين.
نأمل أن نكون قد أضفنا إلى المكتبة العربية مرجعاً جديداً عن حركة الترجمة تاريخها- قواعدها- تطورها- آثارها- في خدمة الثقافة الجماهيرية، التي لابد من تصفحها والاطلاع عليها من قبل أي مهتم بأمور الترجمة وفائدتها في زيادة وعي الجماهير واقتباس كل جديد، والله الموفق.
سالم العيسى
تنزيل نسخة مضغوطة عن الكتاب
http://www.awu-dam.org/book/99/study99/194-ss-a/194-SS-A.zip