الشـــهيد
كنا متلهفين لسماع بقية القصة حقاً!
فمعلمنا الجديد لديه قصص رائعة ما سمعنا مثلها من قبل!! يكفيه أن يقول: "مرة يا أبنائي". حتى ينقطع الهمس، ويخيّم الصمت تماماً، فلا صوت إلا صوته، يعلو تارة وينخفض أخرى ونحن ننظر إليه بلهفة واندهاش، متجاهلين صوت الجرس الذي بدأ يقرع معلناً نهاية الحصة وبدء الاستراحة..
[size=16]"لا نريد أن نخرج.." قال كلّ واحد منا، إلا جاري حسّان لم يعجبه ذلك أبداً، فهو مضطر للخروج ليهيئ وظيفة الدرس التالي، كعادته دائماً، لكزني فجأة لأكون شريكه في مطلبه، لم ألتفت إليه، حتى لا تفوتني كلمة واحدة مما يقوله المعلم، بل دستُ على رجله ليسكت فأنَّ قليلاً وانزاح إلى طرف المقعد..
[size=16]ازدادت نبرات المعلم ارتفاعاً، وهو يلوي فمه مقلَّداً الضابط الصهيوني الذي كان يحقق مع أحمد، طالب الصف العاشر، حيث أوقف وهو يهاجم دوريات العدو بحجارة الشارع..
[size=16]قال الضابط:
[size=16]أأنت من نابلس؟
[size=16]-نعم
[size=16]-ومن علّمك الاعتداء على دورياتنا؟
[size=16]-....
[size=16]-أجب!
[size=16]-ومن قال أنني أعتدي؟!
[size=16]-آ.. أنت الآن من يسأل! ماذا فعلت إذاً؟ هل قدّمت لهم الحلوى؟
[size=16]-نعم.
[size=16]-أنت تسخر مني أيها القذر؟!
[size=16]-ولماذا أسخر؟! إن الضيوف الذين يجيئون من باب الدار نفتح لهم قلوبنا، ونشاركهم طعامنا، نعم ونقدم لهم الحلوى وكل ما لدينا من طيبات! لكن ماذا تقدم لمن جاءك متسلقاً السور، وأطلت بندقيته قبل أن يظهر وجهه؟! هل تقدم له سوى الرصاص؟ والحجارة هي رصاصنا كما تعلمون!.
[size=16]-هكذا إذاً؟!.. أنت تحفظ درسك جيداً، ألم تنل ما يكفيك من التعذيب؟
[size=16]-التعذيب يجعل الدرس أكثر وضوحاً.
[size=16]-حسناً.. سترى!
[size=16]صار معلمنا يلهث وهو يسرع لإكمال القصة بأقصر وقت ممكن، وأحسسنا أننا نلهث معه.. "عرف أحمد بعد أن عصبوا عينيه، أنهم ينقلونه إلى معسكر لاعتقال السجناء العرب، وقدّر من المسافة التي قطعتها السيارة العسكرية أنه سجن الرملة"، فهو يعرف أرض فلسطين شبراً شبراً..!
[size=16]كانت الزنزانة التي رموه فيها مظلمة موحشة، فأحسّ قلبه ينخلع من صدره، بينما لا يسمع إلا صوت قطرات الماء القذر تتقاطر من السقف الرطب تذكر زملاءه وأهله، غرفة الصف ودروس التعبير التي يحبها جداً فراح يدق بقبضتيه جدران الزنزانة دقاً عنيفاً، وفجأة سمع دقاً من الزنزانة المجاورة ثم أخذ هذا الصوت يعلو حتى شعر أن السجن كله يهتز تحت قبضات رفاقه المحبوسين في الظلمة، عندها فقط أحس جسده يرتعش بالسعادة والقوة فجلس وبدأ يغني..
[size=16]هكذا يا أحبائي –قال المعلم- يوماً ما سيكون هناك حرب!
[size=16]أما الأغنية التي أنشدها أحمد في ذلك اليوم فسأقولها لكم في درس قادم، والآن هلموا لتنالوا ما تبقّى من الاستراحة، ثم لملم أوراقه سريعاً ومضى..
[size=16]ولم يكن هناك درس قادم لمعلمنا هذا، لأن معلماً آخر احتل مكانه بعد أن ذهب فجأة..
[size=16]قبل أن يودعنا..
[size=16]كان معلمنا الجديد أصغر سناً، وأقلّ معرفة بالقصص الرائعة، وكنّا كلما لمّحنا له بذلك ابتسم ابتسامة رقيقة وتهرّب من الإجابة بلطف عن أسئلتنا الكثيرة:
[size=16]أين ذهب؟ ولماذا لم يعد؟ وإذا عاد فهل سيكون ذلك قريباً؟!
[size=16]إلا حسّان فلم يكن شيء من ذلك يشغل باله، فهو لا يكاد يسمع صوت الجرس يقرع حتى يقفز كالغزال ليكون أول الخارجين، لكنا استغربنا حين رأيناه يقف فجأة، ومن دون أن يستأذن المعلم سأل: أستاذ.. متى تبدأ الحرب؟
[size=16]توقف المعلم عن الكتابة على السبورة، وهو ينظر إلينا بذهول وهو يسألنا:
[size=16]ومن قال لكم أن حرباً ستبدأ؟!