المزارع والحاسوب
تعوّد مسعود أن يسابق خيوط النور إلى حقله الأخضر ليشهد إشراقة الصباح هناك.
بل إنه يمضي كثيراً من وقته بين شجراته ونباتاته المختلفة.
[size=16]شيء آخر يحبه مسعود كثيراً، إنه بئر الماء التي تساعده في إتمام اللوحة الرائعة على أرض الحقل، فما إن يدير المحرك الكهربائي حتى يتدفق الماء (سر الحياة) مسرعاً للقاء تراب الحقل كأم حانية تلتقي ولدها بعد غياب.
[size=16]قال مسعود لولديه ظافر وماهر: "يخيّل إليّ أن الماء المتدفّقَ يبتسم دائماً كالكريم الذي يفرح بالعطاء، وأن لكل حبة تراب فمٌ يستقبل قطرات الماء كطفل ظامئ، ثمةَ ارتباط وثيق يجمع بين روحي وقطرات الماء وحبات تراب حقلي، وغاية مسرّتي أن تتمّ لوحة الاخضرار ليغدو الحقل بهجة للعين".
[size=16]***
[size=16]مرات عديدة حاول ولدا مسعود ثنيه عن المضي إلى الحقل ليحلاّ محلّه ويقوما بأعمال الزراعة والري وكان يرفض دائماً: "إنه يحبّ صحبتهما ويرغب أن يساعداه، إنّما دون أن يعني ذلك انقطاعه ولو ليوم واحد عن زيارة الحقل وكان يرى اهتمامهما بعيداً عن الأرض والزراعة فابنه البكر ظافر مغرم بمتابعة كل جديد في مجال العلم، وهو يتابع دراسة علم الحاسوب، وكان والده يمضي بعض الوقت يرقب ولده وحاسوبه ويحاول فهم مبادئ العمل ولكنه يقول: أيّ تقدمّ علمي لا يلتفت إلى هذه الأرض ويهتم بها هو هدرُ للوقت والجهد. ويبتسم ظافر إذ يرى أنه لا مجال للحاسوب أن يفيد في الزراعة. أما ماهر فهو طالب في المرحلة الثانوية يحلم بأن يصبح بحاراً يجوب شواطئ بحار الدنيا. المهم، ما حدث للوالد جعله يستجيب ـ مكرهاً ـ لرغبة ولديه، فبينما كان محرك البئر وحبات التراب ونباتات حقله تنتظر يده الحانية كان هو يرقد في المشفى بعد أن تعرض لحادث مروري أدّى إلى كسر رجله وإصابته برضوض شديدة.
[size=16]الحقل إذاً في عهدة ولدي مسعود.. أوصاهما، وألقى على مسامعهما تعليماته حول الاهتمام والجدّ، وهما استجابا لنداء الحقل، وراحا يمضيان الوقت الكافي للقيام بأعمال الري وتنظيف الأرض وغير ذلك مما يجب عمله.
[size=16]حين علم مسعود أنّ عليه قضاء وقت راحة طويل أصرّ على أن يمضي هذا الوقت إلى جوار عالمه الأخضر، فقد بنى في حقله غرفة يمكنه الاستراحة فيها والإشراف على ما يقوم به ولداه، وأقنعه ظافر بأن يحاول التقرّب أكثر من عالم الحاسوب، فزوّد غرفة حقله بجهاز وأخذ ينصتُ لظافر وهو يعلّمه، وظافر فرح كثيراً لاستجابة والده السريعة في التعلّم وإعجابه بهذا الجهاز الرائع. وبعد أيام، بينما كان مسعود يتابع تعلّمه انتبه لصوت محرك البئر وهو يجهدُ في إخراج المزيد من الماء فأحس أن في عمل ولديه خللاً. حزن كثيراً لعجزه عن متابعة الري بنفسه. وما أحزنه أكثر يقينه أنّ ولديه تنقصهما الخبرة في هذا المجال. حدَّث مسعود نفسه: "ماذا عليَّ أن أفعل؟ هدر الماء كارثة.. كارثة". وراح يفكر. فجأة لاحت في أفقه فكرة: "لِمَ لا يسخِّر هذا الحاسوب لتنظيم ري الحقل. أجل يمكن ذلك عبر برمجته لحساب حاجة كل مترٍ من الأرض للماء مع الأخذ بالاعتبار نوع النبات وعمره واستطاعة البئر. وتوصيل الجهاز بمنظّم يقيس كمية الماء المستخرجة وعند إخراج الكمية المطلوبة يعطي الجهاز إشارة تنبيه ويوقف تدفق الماء آلياً.
[size=16]أحس مسعود أنه اجتاز آلامه، فسيطرت على وجهه علامات الفرح والسعادة وأخذ ينادي ولده ظافر، وشرح لـه فكرته. دُهش ظافر بداية، ثم فكّر في إمكانية تنفيذ ما يقول والده. ولأنه يدرك أن لا مستحيل مع العلم فقد ابتسم لوالده ووعده بأن يعرض الفكرة على أستاذه الخبير في تقنيات الحاسوب.
[size=16]***
[size=16]بعد أيام حضر الأستاذ، واستمع إلى مسعود وهو يحاول إقناعه بجدوى فكرته، فأثنى الأستاذ عليه ووعده بأن يقدم مشروع اختراعه إلى الجهات المختصة.
[size=16]ومضت أيام استعاد خلالها المزارع عافيته، وبينما كان يستعد للمثابرة في درب النشاط والعمل فوجئ بسيارة تتوقف أمامه ويترجل منها خمسة رجال أخذوا يقدمون لـه التهنئة فاختراعه نال اهتمام وثقة الجهات المختصة وعليه أن يرافقهم لإتمام إنجازه.
[size=16]انهمرت دمعتا فرح من عينيه، وهناك في العاصمة دمشق تحولّت فكرة المزارع مسعود إلى حقيقة علمية وتلقى نسخة من اختراعه هدية لـه حيث ثم تركيب الجهاز المنظم لكميات الماء المستخرجة وباشر الجهاز عمله والفرحة تغمر مسعود وولديه.
[size=16]قال ظافر لوالده: "أتذكر حين قلت إن أي تقدم علمي لا يلتفت إلى الأرض ويهتم بها هو مضيعة للوقت والجهد؟ ها أنت تساهم في توجيه هذا التقدم نحو خدمة الأرض أعذرني كنتُ أرى مسافة شاسعة تفصل بين علوم الحاسوب والزراعة. أنا الآن أعاهدك على أن أقف إلى جوارك في كل ما تفعل).
[size=16]ابتسم مسعود وربت على كتف ولده ظافر، وبعد قليل أسرعا نحو محرك البئر وهما يسمعان إشارة جهاز الحاسوب تعلن كفاية كمية الماء المستخرج لري أشجار الزيتون ويوقف تدفق الماء.