العمّة شمس
تسري نفحات سعادة منعشة في روحي وأنا أمدّ خطوات عائدة من ساحة المطار نحو بيتي، أخطو ومع كل خطوة أزداد سعادة من صنيعي الذي قمت به طوال عشرة أيام فائتة حتى تكلل بالنجاح منذ لحظات عندما ارتفعت الطائرة حاملة العمة شمس.. تلك المرأة التي سجلت واقعة هامة في حياتي وليس بوسعي نسيانها.
العمة شمس، هذه المرأة المتقدمة في السن التي من أجلها الآن تتصوب إلي نظرات المودعين المريبة وهم يتمتمون في نفوسهم بأنني رجل أبله، وإلا ما الذي يجعل شخصاً في كل هذه السعادة وهو للتو قد ودع عزيزاً أو حبيباً قد لن يراه ثانية، لكن هذا كله لا يهمني وأنا أمد خطواتي مع خطواتهم من جناح المودعين نحو الخارج، وأكاد أرى حتى الابتسامة تبتسم على ثغري وهم يزدادون دهشة وربما استياء.
[size=12]معهم الحق، فهم لا يدركون قصة هذا الوداع، ولا يعلمون مَن هي عمة شمس الرائعة، تلك التي تحلق الآن في الفضاء تاركة في نفسي كل هذا الشعور العارم بفيضان الفرح.
[size=12]منذ عشرة أيام تعرفت بالعمة حينما رأيتها لأول مرة في حياتي، كان الوقت قبيل الظهر وأنا جالس في مكتبتي القرطاسية أتدفأ على السخان الكهربائي الذي يحمل إبريق الشاي، أنظر إلى المطر الغزير الذي ينذر بطوفان ويزداد قوة وغزارة منذ ساعة متواصلة وسط أصوات الرعود والصواعق المتلاحقة التي تهز الأرض وما عليها.
[size=12]بغتة وأنا أتأمل المنظر من خلف زجاج المكتبة تراءى شخص كشبح تتهرول به خطواته مسرعة نحو المكتبة، يدير قبضة الباب ويندفع إلى الداخل كتلة من ماء وكأنه لاذ بي فارّاً من هيجاء.
[size=12]جفلت وأنا أنتفض بسرعة من الكرسي، وإذ بملامح امرأة ترتعد خوفاً من أصوات الصواعق وترتجف من شدة البرد القارس، امرأة عجوز تبدو قادمة لتوها من الريف، ترتدي ثياباً قروية سوداء رثة، بيد أنها ورغم علامات العمر البادية على سحنتها تبدو قوية البنية تقف على قدميها بشموخ كفتاة. كذلك استطعت أن ألمح شيئاً مضيئاً في وجهها يوحي بأنني أقف أمام شخص رحيم، ولعل هذا الذي خفف من هلعي بدخولها المباغت.
[size=12]لم يكن الموقف مناسباً لأسألها شيئاً غير أن أدعوها إلى السخان لتتدفأ لعل هذه الثياب الغاصة بالمطر تجف قليلاً، لكنها مدت يدها إلى بعض الثياب التي ترتديها لتستغرق عدة دقائق حتى تخرج كيساً وتضعه أمامي قائلة: يا بني.. اعمل معروفاً، وبدت كأنها لا تريد أن تنتظر لحظة واحدة حتى تسترد شيئاً من أنفاسها المتلاحقة مردفة: أنا مستعجلة قبل أن يغلق البنك الله يخليك.
[size=12]قلت بدهشة وأنا أنظر إلى الكيس: ماذا تريدين يا عمّة؟
[size=12]وضعتْ عقدة الكيس في فمها وفكّته ليتراءى كيس معقود آخر، فكّته بذات الطريقة ليظهر ثالث معقود ونظراتي معلّقة بحركات هذه المرأة العجوز التي تعمل بيديها الراجفتين وأسنانها المصطكة والمطر ينزل من ثيابها.
[size=12]بدت أمامي كلوحة فنية، في هذا الوقت الذي شلت الحركة من المدينة كلها، حتى السيارات اضطرت للوقوف بسبب ارتفاع المطر في الطرقات تأتي امرأة في أواخر العمر لتواصل العمل وكأنها تحمل الكرة الأرضية على ظهرها؟! أخيراً ظهر كيس أسود عتيق يبدو أنه السادس والذي يحتوي على الكنز الذي ستخرجه وأنا متلهف لرؤية الذي سيظهر بعد كل هذه العقد.
[size=12]رفعت المرأة عينيها العجوزتين إلي وهي تفض ما بجوف الكيس على الطاولة قائلة: يا بني.. هذه نقود محروقة، ذهبتُ إلى البنك لأستبدلها، قالوا بأنهم لن يستبدلوها قبل أن ألصق أوراقاً بيضاء موضع الأماكن المحروقة، وأرشدوني إلى مكتبتك.
[size=12]وفي لحظة نزلت كل الأوراق النقدية محروقة الأطراف على الطاولة تفوح منها رائحة الحريق، نظرتُ في الكم الهائل من الأوراق النقدية وتمتمت في نفسي: إذن مهمتي تكمن في أن ألصق كل هذه الأوراق المحروقة وأجعلها صالحة للاستبدال، وعلي أن أستعجل قليلاً لأن المصرف سوف يغلق بعد أقل من ساعة، وعند ذاك لن يكون أمام هذه المسكينة إلا أن تعود غداً مرة أخرى وتلقى ذات العذاب، لكن لدي خبرة جيدة وقد قمت بذلك كثيراً بسبب قرب مكتبتي من المصرف المركزي: أهلاً وسهلاً يا عمّة ستكون جاهزة بعد قليل اطمئني.
[size=12]عندئذ ولدى مباشرتي بالمهمة التي سوف تستغرق نحو نصف ساعة بسبب كثرة الأوراق، بدأت ملامح الاستقرار تظهر على وجه وصوت المرأة وهي تتنفس الصعداء قائلة: يجزيك الله خيراً يا بني، أرحتني من هذا الهم. وصمتت تاركة في فيها بعض كلام بدا لي أنها تنتظر استعدادي لسماع ما تبقى من كلام لم تقله.
[size=12]رفعتُ نظري إليها قائلاً: اكملي يا عمة، سأسمع وأعمل؟
[size=12]قالت: أنا عمتك شمس، جئت من قرية العطشانة التي تبعد خمسين كيلوا متراً عن هنا، قلت لصاحب الباص الذي أوصلني بأنني لا أملك شيئاً، ولكن عندما أعود معه في رحلة العودة سأعطيه الأجرين.
[size=12]عرفت ما رمت إليه وقلت: لا عليك يا عمّة. لكنها قالت: لا يا بني، هذا حقك وتعبك، وأنا إن شاء الله ذاهبة لبيت الله.
[size=12]قلت وأنا منهمك في لصق الأوراق: إن شاء الله.
[size=12]قالت: هذا هو حلمي الوحيد في الحياة يا بني الذي أرجو ألا يخيبني الله في تحقيقه، كثير من أحلامي لم يتحقق، بقيت نفسي في أمنيات وحسرات فقدت الأمل في تحقيقها، لكن هذا الحلم إن تحقق سوف يعوضني بكل شيء. منذ ثلاثين سنة وأنا أحلم بأن تطأ قدماي تلك الأراضي الطاهرة، وأن تتنور عيناي برؤية الكعبة المشرفة، إن تحقيق هذا الحلم يا بني هو خير من الدنيا وما فيها. أنت تعرف بعد عشرة أيام سوف تنطلق الرحلات وعليّ أن أسجل اسمي في مكتب الحج والعمرة وأعطيهم الأجر حتى يعتمدونني للذهاب.
[size=12]رغبت في أن أسألها عن سبب احتراق هذه النقود بعد أن علمت من حديثها بأنها النقود التي ستسافر بها، لكنني خشيت أن أسبب لها إحراجاً وبعد صمت ليس بالطويل وأنا على وشك الانتهاء من اللصق قالت: أعرف بأنك تريد معرفة سبب هذا الذي أصاب النقود، وأعدك يا بني عندما أنتهي من المصرف ومن التسجيل في مكتب الحج والعمرة سوف أعود لأعطيك أجرك وأقص عليك ما تود أن تعرفه.
[size=12]هززتُ رأسي بالإيجاب وأنا أناولها حزمة النقود في كيس صغير جديد يحمل اسم المكتبة بعد أن غدت صالحة للاستبدال، تناولته العمّة كأنها تتناول كنزاً ثميناً كانت قد أضاعته، وعلى الفور أخفته في بعض ثيابها وفتحت الباب لتخرج بأقصى سرعة راكضة تحت المطر صوب باب المصرف الذي يبعد نحو ثلاثمائة خطوة، وللتو تذكرت بأنها تمطر بغزارة وكنت قد نسيت تماماً أمر المطر الغزير وكذلك أمر إبريق الشاي الذي نشف وهو يغلي على السخان دون أن أنتبه إليه. وضعتُ الإبريق جانباً وجلست على الكرسي متعباً لأنني أمضيت نحو نصف ساعة واقفاً في العمل، ثم قلت: سوف أصنع الشاي الذي فاتني، منه أتدفأ ومنه أنتظر العمة ريثما تأتي لتقص علي قصة النقود المحروقة. نهضت حاملاً الإبريق نحو خزان الماء الصغير الذي يقع بالقرب من الباب وإذ بذات الكيس الذي ناولته للعمة مرمياً في زاوية الباب. تسمرت مكاني هنيهة غير مصدق ما أرى، ثم دنوت ومددت يدي إليه حتى تأكدت بأنه ذات الكيس الذي يبدو بأنه سقط منها وهي تخرج مسرعة من باب المكتبة، أو أنها لم تضعه جيداً في ثيابها فوقع على الأرض. حملت الكيس وأغلقت باب المكتبة خلفي منطلقاً بسرعة ربما أشد من سرعة العمة صوب باب المصرف الذي لابد أن تكون قد وصلته العمّة للتو. وفي أثناء الجري لا أعرف ما الذي حدث، شعرتُ بصدمة مباغتة أفقدتني الوعي. بعد مرور ستة أيام استرددت وعيي ورأيتني في المشفى. عندئذ قيل لي بأن سيارة مسرعة اصطدمت بي على الطريق المقابل لمكتبتي وأن سائق السيارة موقوف. للتو تذكر تفاصيل ما وقع لي وتذكرت أمر العمّة شمس، تذكرت كيس النقود، وغدا كل شيء يراودني كحلم بعيد، وأيقنت بأن أحداً ما قد رأى كيس النقود على الطريق فأخذه لأنني كنت أحمله بكفي بشكل مستعجل لأعطيه للعمّة. في اليوم التالي أذن لي الطبيب بالخروج ولدى وصولي إلى البيت جاءني شخص وقال بأنه شقيق السائق الذي صدمني وهو حالياً موقوف ولن يُطلق سراحه إلا إذا أسقطت ادعائي الشخصي عليه بموجب الضبط الذي وضعته شرطة المشفى. وكانت الشرطة قد استدعت أهلي الذين تقدموا بالادعاء الشخصي نيابة عني. عدت مع الشخص بعد ساعة إلى مخفر وأسقطت ادعائي على السائق دون أن أطالبه بأي تعويض لأن تعويضي الذي أخذته هو أنني عدت إلى بيتي بسلام. ولكن بقيت الحسرة في قلبي على العمة شمس التي سوف تتألم كثيراً على ضياع حلمها. وكم رغبت فيما لو ملكت مثل هذا المبلغ لأقدمه للعمة حتى تحقق حلمها. فكرت بأن أطلب تعويضاً من السائق لأعطيه للعمة شمس حتى تحقق حلمها به لأنه هو الذي تسبب في ضياع الكيس، ولكنني تذكرت قولها لي في المكتبة أنها كانت ترفض أي صدقة أو أي زكاة، وكانت رغم عجزها تعمل في حياكة الملابس لأهالي القرية وأحياناً تعمل في قطاف القطن وتربي الأغنام كي تذهب إلى الحج من جهدها الخاص. عدت إلى البيت حزيناً كئيباً وأنا أعرف بأن الرحلات بدأت تنطلق نحو الحجاز وأن العمّة الآن هي أبأس مخلوق على وجه الأرض..