على عتبة المسرح الشعري
لا يماري أحد في أن المسرحية اليونانية أمُّ المسرحيات الغربية على اختلاف مدارسها وأساليبها، وأن سماتها التي تجلَّت فيما ألف سوفوكليس ويوربيدس طَغَتْ على المسرح الاتباعي يما بعد، فألزمَتْه أن يستلهم موضوعاته من التاريخ القديم، وفرضت عليه أن يحاور بالشعر لا بالنثر، وقيَّدته بالوحدات الثلاث: وحدة المكان، ووحدة الزمان، ووحدة الموضوع والحدث.
وقبل ثمانين سنة خطر لأمير الشعراء أحمد شوقي أن يصنع المسرحية العربية، فنظر فيما يُعْرَض على مسارح الغرب، فإذا المعروضُ مسرحياتٌ مختلفات السمات، فحار فيما يختار، ثم تخيَّر المسرحية الاتباعية، وهي أشقُّ المسرحيات على القلم، وأحبُّها إلى النفس، وأصعبها بناء وإنشاء، وأضيقها حدوداً، وأثقلها قيوداً. وكأنه آثرَ أن يستقي هذا الفنَّ من قمة الينبوع اليوناني على أن يستقيه مما يترقرق في أوشال الإبداعية والواقعية والرمزية على سفوح المسارح الحديثة.
[size=12]وهذا الإيثار حَمَّل شوقيّاً تبعاتٍ ثقالاً: حمّله أن يستوحي موضوعاته كلَّها أو جلَّها من التاريخ القديم، وأن يجريَ الحوار كلَّه أو جلَّه بالشعر، غير أنه التزم ـ وهو معذور ٌ فيما التزم ـ الشعرَ العموديِّ ببحوره الغنائية، وقوافيه الراتبة، حتى حَمَله التزامُه هذا على الحشوِ أحياناً، وعلى تسخير المعنى للمبنى أحياناً أخرى. فركد في مسرحه الحَدَثُ، وفترت الحركة، وطغى الغناءُ الطروب على الحوار الحيّ.
[size=12]ومن أربعين سنة خُيِّل إليَّ أن النثر أصلحُ للحوار، وأَطْوَعُ من الشعر، وأقدرُ على ترجمة الأفكار والمشاعر، فتطفَّلتُ على مائدة المسرح، وأعددتُ لإذاعة الكويت مسرحيات تُسْمَعُ ولا تشاهد، أبرزُها حَلَقاتٌ سبعٌ صوّرتُ فيها شخصيةَ المتنبي، وعنوانُها "الشاعر الطموح". ولما كانت طبيعة الموضوع تحملُني على أن أُضَمِّخَ منثوري بمنظوم المتنبي فقد تراءى لي، وأنا أصغي إلى النصّ المُذاع، أن كلامي كان يبهتُ ويخفتُ كلّما صدحَ أبو الطيب ببيت من شعره الفخم، فإذا حواري الذي تأنَّقتُ فيه ونمَّقتُ، وادَّعيت أنني أبدعت فيه ووقّعت، يخبو ويكبو، كلّما تألَّقتْ أصداءُ الشاعر في فم الممثّل.
[size=12]أدركتُ حينئذ ما رمى إليه الإغريقُ والاتباعيّون من أجانب وعرب في إيثارهم الموزونَ على المُرْسَل، وعقدت العزم على العدول عن المنثور إلى المنظوم مأخوذاً بالنغمات التي تتفجَّرُ من شعر المتنبي المجلجل فوق نثري الخامل، ومفتوناً بالتوقيع البديع الذي تحفلُ به لغتُنا الشاعرة. ثم جعلتُ بيانَها الموقَّعَ لغةَ الحوار في أربع المسرحيات الشعرية التي نشرتها بين سنة 1990 وسنة 2005م1. وفي مسرحيّات أخرى لمَّا يُقَيَّضْ لها النشر.
[size=12]ولمّا كان الحوار عَصَب المسرحية وروحَها: بحيويته تشتعلُ، وبفتوره تنطفئ، فقد ضربتُ الحوار الشعري على محكِّ النقد قبل أن ينقدني الناس. رحتُ أصوِّر المشهد الواحدَ بأوزان الخليل مرةً، وبشعر التفعيلة أخرى، وأُديرُ الحوار بلساني على أذني، لأقف على ما فيه من ائتلاف واختلاف، وانهمار وعثار، وضياء وانطفاء، فثبت لي أن أوزان الخليل تصلح للتأمل الهادئ، وللحكمة الرزان، وأن شعر التفعيلة يصلح للأحداث المتسارعة، والنوازِع المتصارعة، فأقللتُ من الأولى وأكثرتُ من الثانية، زاعماً أنني بهذا الصنيع أنأى.
[size=12]بالحوار عن الحشو والفتور، وأبثُ فيه نبضَ التسارع والتصارع، وأوفيّه حقَّه من التنغيم والإثارة.
[size=12]ثم وقفني نقدُ نفسي على مَأْخذ آخر فيما نشرتُ قبلُ، وهو أن العصر الحديث غداً سريع الإيقاع، يكره التلُّبُثَ والتريُّثَ، ويحبُّ التدافُعَ والتسارع، فواكبتُ سرعة الإيقاع بتقصير المسرحيات، وطفقتُ اجتزئُ من الحدث المفصَّل بالمشهد المجمل، ومن الشخصية المتعدِّدة الجوانب والمشاعر بجانب يميزها، وعاطفة تُبرزها، لئلا أُعْنِتَ القارئَ بما لا يصبر له عليه، فكانت هذه المسرحياتً القصار التي أضعُها بين يديك. فإنْ وقعْتَ فيها على ما يُقنع ويُمتع فالفضلُ لتاريخنا المجيد ولغتنا الشاعرة. وإن ساءَك منها تقصيرٌ أو قصورٌ فاللائمةُ على من صوَّر أقلَّ ممَّا تصوَّر. له عليك أن تُوجِّهَ لا أن تُنوِّه، ولك عليه أن يستدرك النقصَ، لا أن يدَّعي الكمال.
[size=12]د. غازي مختار طليمات
[size=12]1 أربع المسرحيات هي:
[size=12]* عز الدين بن عبد السلام (سلطان العلماء). دار طلاس دمشق 1990م.
[size=12]* محكمة الأبرياء. دار البشير عمان 1996م
[size=12]* عيون جالوت. دار طلاس دمشق 1997م.
[size=12]* المحنة. اتحاد الكتاب العرب دمشق 2005م.