قبل الولوج في محراب النّص أذّكر بمسألَتْين اثنتَيْن
المسألة الأولى: عندما يتبّنى أحدُنا (أسطورة ما.. أو فكرتها..) ويأخذها بحرفيتها.. فهذا يعني أنه (وسط ناقل) اهتمّ بالأمانة العلمية شأن المؤرّخين الثّقات ليس إلا.. وبالتالي فإنه لم يُضِفْ إلى الأسطورة شيئاً سوى أنه نقلها من أسطورة سرديّة إلى أسطورة حواريّة.
لكن عندما يوجّه أحدُنا دفّة الأسطورة إلى حيث يريد.. أو أن يأخذ من مضمونها ما يشاء ليُسقط على ما أخذه ـ من عِنديّاته ـ خلاصة ما يريد.. فإن أَخْذه هذا هو صفة من صفات الأديب الذي لا يهتم بالنقل (الفوتوغرافي) لأنه ينقل الواقع بغير الواقع.. بل يهّمه أن يكشف سر (عقب آخيل) لا أن يقف عند حدود معرفة أن قوة (آخيل) في عقبه.. وأن يعرف (مَكْمَنَ قوّة شمشون) غير مُكْتفٍ بمعرفة أن (شمشون) قوي.
[size=12]كما أن عليه أن يُدرِك ـ بالاستنتاج بعد الاستقراء ـ سبب سقوط (ايكاروس) ـ ولو لم يعرف سبب سقوطه من قبل ـ وذلك من خلال نجاة أبيه (ديدالوس) عندما يعرف أن كلاً منهما قد اتخذ لنفسه جناحَيْن من الشمع وطارا.
[size=12]هذا ما فعلته عندما تناولت أسطورة (كرونوس) والتي لم تذكر عنها المراجع سوى صفحةٍ أو صفحتين عن تلك الأسطورة ولم أتمسّك بحرفّيتها لأسقطها على واقعٍ ما.. منطلقاً من قول (ميرلوبونتي):
[size=12](صحيح أن العالم قديم، لكن علينا أن نتعلم كيف نراه).
[size=12]ألم يكن المشاهد اليوناني الذي يحضر العرض المسرحي يعرف مسبقاً فحوى الأسطورة التي يتحدث عنها العرض؟ لكن الجديد عنده هو التعرف على البعد الذي اختاره الشاعر من أبعاد الأسطورة وما يعكسه من هوية العصر الذي كان يكتب فيه يقول (جلبير دوران): ما يهم في الأسطورة ليس مسار الأحداث وحده ولكن ما يهمّ هو المعنى الرمزي للألفاظ.
[size=12]* * *
[size=12]المسألة الثانية: لاشك أن لدى المخرج لغات عديدة (سمعية وبصرية) متنوعة المسارب متعدّدة المشارب إلا أن مسرحه ـ شاء أم أبى ـ هو الخشبة المؤطّرة (طولاً وعرضاً..وعمقا وارتفاعاً) وأن جمهوره هم المتفّرجون لا القرّاء... بينما نجد أن خشبة مسرح المؤلّف ـ على الرغم ـ من امتلاكه لغة واحدة فقط هي (لغة الكتابة) نجد أن خشبةَ مسرحِهِ قاعدتها مساحة الأرض وسقفها قبّة السّماء وامتدادها في الاتجاهات الستّة يقول أحدهم (المؤلف يناضل ضد الناس والمخرج يناضل ضد الجمهور).. ولذا.. فلا غَرْوَ أن نجد قلم المؤلف مرةً يحلق في أعلى عليّين وأخرى يغوص في أَعْمق الأعاميق سابراً غور النص وأعاميقه داخلاً في تعاريجه ودهاليزه ليقدم للقارئ (وللمتفرج من خلال المخرج) متعةً وفائدة ليصل به من خلالهما إلى ما يريد من غير أن ينسى أن نصّه إن كُتِب لـه أن يرى النور يوماً على الخشبة على يد أحد المخرجين.. فإنه سيكون صالحاً للعرض بعد تشذيب لطيف شفيف (يُسميه بعضهم خطأ بالإعداد) وهذا ما فعلته في سائر المسرحيات التي أخرجتُها حتى لو كانت من تأليفي وما فعلته أيضاً عندما أخرجت مسرحيته "يهودي مالطه" لـ " كريستوفر مارلو").. ومثلت فيها دور "باراباس".
[size=12]ألم يقل (ادوارد غوردن كريج الإنكليزي ـ 1782): ((إنّ كثيراً من الأمور يكتبها الكاتب المسرحي للقارئ لا للمشاهد ويجب حذفها في أثناء العرض)) لذا لابد من تشذيبٍ يمس بعض شكْلانيّة المظهر لا عمق الجوهر لأن المخرج عندما يختار نصاً ليقدمه عَرْضاً فإنه يختاره بملء حرّيته وبالتالي فإنّ عليه أن يظلّ محترماً للنص وفياً لهدفه ومغزاه من غير أن يلوي عنق النص كبعض المخرجين الذين إن أعجبهم نصٌ ما.. أخذوا فكرته ثم نسفوا النص من جذوره من غير أي مسوّغ منطقي. وهذا أيضاً ما نَهَجْتُه في نصّي المسرحي هذا داخلاً في تفاصيله متوسعاً في أحداثه متوجهاً للقارئ على الرغم من معرفتي قول (النّفري) "إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" آملاً أن أصل من خلاله ـ مظهراً وجوهراً.. شكلاً وفحوى ـ إلى عتبة الكفاية لأن الكمال صفة من صفات المطلق.