مقدمة
لا بد للتجريب في المسرح من أن ينطلق من إرادة البحث المستمر عن مغامرة جديدة تخترق ثوابت الراهن الموضوعي، وثوابت الأشكال الفنية، تبدأ هذه المغامرة بالكلمة المكتوبة وتمتد عبر لغة الجسد وسينوغرافيا العرض المسرحي، وبهذا فإن التجريب ليس عملاً فانتازياً يعمد فيه المؤلف والمخرج إلى الخروج عن المألوف أو اختراق المجهول فحسب، وإنما هو في جوهره تعبير عن لا معقولية الوضع الإنساني والقلق الأزلي والانتظار، وعن هموم كلية مستقرة في أعماق الإنسان، وهو بالإضافة إلى ذلك وعي جديد للجمال وبحث دائب فيه، وإن أكثر الأشياء معقولية تلك التي تبدو لا معقولة في ظاهرها لكنها تظهر ما نحاول إخفاؤه، مستكشفة أغوار الواقع المكنون.
هذه النصوص قد تصدم القارئ والمتفرج بغرائبيتها وإرهاصاتها وموضوعاتها وشكلها، والتجريب هو فعل الصدم، أما الإدهاش فيتوفر في المسرح التقليدي مثلما يتوفر في المسرح التجريبي، وإن التجربة التي عشتها في إنجازها تدفعني إلى التأكيد بأن التجربة لا تكرر نفسها، وأنه في الوقت الذي تنظم فيه هذا المسرح قواعد وشروط وأنظمة فإنه لا يعود تجريبياً، لكن أمراً أساسياً أؤمن به هو أن الكلمة -النص هي دائماً المنطلق بالرغم من اتجاهات حديثة في التجريب تميل إلى إلغاء دور الكلمة واستبدالها بلغة الجسد وحركة المجموعات وتشكيلاتها، وسنجد أن من هذه النصوص ما ينتمي إلى مرحلة ما بعد التجريب من غير أن يلغي دور الكلمة -النص كمنطلق أساسي في الفعل المسرحي.
[size=12]على هذه الخشبة المحدودة الأبعاد يقف المسرحي ليخلق من الواقع الراهن والممكن عوالم غنية زاخرة في مغامرة تخترق المجهول، باحثاً باستمرار عن كوامن الحياة والنفس والفكر، وعما هو جديد في الفن المسرحي، معتمداً منطق الحقيقة في أشد تجلياتها صراحة وجرأة، وكثيراً ما يلجئه ذلك إلى مجانبة المنطق الواعي المؤطر بالتيمات الاجتماعية والفكرية والمكلل بالأقنعة.
[size=12]المسرحي يعمل دائماً على أقطار سلسلة من الدوائر المفتوحة، رافضاً أن يغلق على نفسه دوائر الإبداع والتجريب ليستطيع أن يقدم الواقع في قيعانه السفلي وأن يقرأ عصراً تعيشه البشرية اليوم مثل حلم ثقيل، فالتجريب في البداية والنهاية هو فعل اختراق واكتشاف وسقوط أقنعة، وإنه لمسرح مضاد مصادم مدهش، جديد متجدد دائماً، غرائبي حلمي في شكله، واقعي في جوهره، ينفذ بقوة وحدّة إلى أعماق الحياة والفكر والنفس الإنسانية.